مقالات

باب الحديد (محطة مصر) (بين القصّ والنقد)

بقلم: إبراهيم أمين مؤمن

ملحوظات: النقد في أسفل القصة.

المشاهد الثلاثة قمت فيه بدمج أحداث الرواية كلها،وأظهرتُ طبائع الشخصيات المحورية فيها: قناويوعم مدبولي وهنومة وأبو سريع.

وراعيت أن تكون قصة قصيرة متكاملة في أركانهاوسماتها.

وظلت هنومة تتمايل على حرف باب القطار السائروهي في قمة السرور، وتغني: «واحنا بكرة هنتجوز

بينما قناوي يتكئ على صفحة القطار وينظر إليهابكل سرور، ولقد خُيل إليه أنها دعته إلى القطار منأجل مصارحته بالزواج منه.

تلك الفتاة التي عشقها، فدائما يراها أشبه بتلكالصور العارية التي ملأت جدران حجرته التي يبيتفيها.

فقد اعتادت هنومة دائما أن تلبس فستانا يظهر نصفثديها العلوي، وكذلك يظهر نصف ساقيها السفليين.

وتأكد من ظنه بعد أن تذكر اليوم الذي أحضر لها فيهعقدا ذهبيا يملكه رغبة بالزواج بها، ولقد تعمد ذلكلأنه يعلم عنها من خلال عملها في المحطة أنها تحبالمال أكثر من أي فتاة أخرى وأنها قد تتنازل عنثوابتها من أجل حصد المال، ولقد تجسد ذلك أمامهعندما كانت تبيع زجاجات الكوكاكولا  للركاب بأيوسيلة رغم أن ذلك يعرضها للمساءلة أمام رجال الأمن.

وقد بدا طبيعيا عندما سمع منها ذلك، وقال: «أحسنونبعد عن الزيطة دية خالص

فأحد جوانب شخصيته المريضة أن الكلام الذييستحسنه ويحقق أحلامه يعتقد فيه الواقعية ولو كانبعيدا عن ذلك ملايين السنين الضوئية.

ويرجع السبب في ذلك بسبب جعل نفسه تنفلتلتسبح في الخيال دائما، مما تسبب أن كل مداركهتجسد رغباته أمامه وإن لم توجد في الأساس.

وقال في نفسه: لقد نجحت خطتي بعد أن قتلتُ البتحلاوتهم وألصقتُ التهمة بأبو سريع.

لذلك قال وهو يبتسم ومنبسط الأسارير: «فرحانة ياهنومة؟»

أجابت في صرامة: «أيوه، وعقبالك أنت كمان لما تلاقيبنت الحلال اللي تريح قلبك

هنا تأكد أن هنومة لم تقصده هو عندما قالت قولها: «واحنا بكرة هنتجوز

ضربته كلمة هنومة في أوعية قلبه وظهر ذلك علىملامح وجهه التي تقلصت بعد أن كانت منبسطة،وهُيئ له أن هنومة لم تعلم بجريمة قتل أبو سريعلحلاوتهم، أو على الأقل خطته فشلت في إلحاقالتهمة بأبو سريع الذي يعمل شيالا في رصيفالقطار. لذلك قال في اندفاع وإصرار: «أبو سريع قتلحلاوتهم وعاوز يتجوزك عشان يلهف القرشين الليحوشتيهم

استنكرت حلاوتهم كلامه وصرحت بحب أبو سريع لهاوزواجه بها، فأغضبه تصريح هنومة له وشعر بأنحلمه ضاع وذهب مع الريح، لذلك أخرج السكين علىالفور وهددها بقتلها وقتله إن تزوجت بأبو سريع.

في تلك اللحظة آثرت هنومة أن تقاومه بالقوة لابالحيلة، ونسيت كلام أبو سريع لها عن قناوي يوم أنقال لها أبو سريع بالنص: الكلمة الطيبة تطويهوتخليه زي العيل الصغير، والكلمة الرضية تقلب كيانهوتخلي مخه يشت ويعمل جناية.

وآثرت المقاومة بدل أن تقول له كلمة طيبة تطويهوتخليه زي العيل الصغير، فغافلته وهو شاهر السكينفي وجهها وأمسكته من يده التي بها السكين وشدتهابأقصى ما لديها من قوة  فطرحته أرضا ثم لاذتبالفرار بالركض عبر عربات القطار. نهض وركضخلفها للإمساك بها.

                             ***

                         

صوت مذيع القطار يجلجل في القطار: على كل الركابالابتعاد عن منطقة المناورة، مجرم يحمل سكينا، علىرجال الأمن التوجه إلى منطقة المناورة.

في ظل المطاردة ظل يردد مذيع القطار تلك العباراتبعد أن أوقفوه.

لقد حضر رجال الأمن منذ بضع دقائق بناء على مكالمةمن قناوي نفسه لاستكمال مخططه الشيطاني، فبعدأن قتل حلاوتهم ووضعها في صندوق ذهب إلى أبوسريع ليخبره بأن هذا الصندوق يحمل متاع حلاوتهمويجب عليه إحضاره بناء على طلبها.

فلما رأى أبو سريع يحمل الصندوق سارع بالاتصالبرجال الأمن ليخبرهم بقتل أبو سريع لعاملة القطارفي المحطة وتدعى حلاوتهم.  

ولكن فور أن جاء رجال الأمن علموا الحقيقة، علموا أنالذي قتل حلاوتهم هو قناوي، وأنه مجنون، وعلى ذلكطلبوا له مستشفى المجانين.

استمرت المطاردة بضع دقائق، وأخيرا تمكنت هنومةمن فتح باب كابينة القطار والاختباء فيها بينما هويركض بحثا عنها في لهفة.

نظر قناوي فوجد أبو سريع ورجال الأمن يتوجهونناحية القطار، فتوارى، بينما دخل أبو سريع وسطالجميع وهو ينادي في لهفة: «هنومة هنومة

سمعت هنومة صوت أبو سريع ففتحت باب الكابينةوهي تنادي عليه نداء المستغيثين، فوجدت قناويأمامها.

وضع يده على فمها حتى يكتم صوتها وهو يشهرسكينه في وجهها، واشتبكا معا، هو يحاول كتمأنفاسها وشل حركتها وهي تحاول اللواذ منه بالهرب،وفي النهاية تمكنت من عضه عضة قوية، على أثرهااستطاعت الفرار لتقفز من مؤخرة القطار.

                          ***

وقفزت هنومة من مؤخرة القطار، وقفز خلفها ليمسكبها ولا تزال السكين في يده. ويتدحرجان علىالقضيب عدة مرات حتى استقرا على مكان تحويلة (1) القطار، أصيب قناوي بشج كبير في أعلى رأسه (2) نتيجة ارتطام رأسه بقوة في الطوب المسنن الملقىعلى الأرض، وأغلق قضيب القطار استعدادا للانطلاقمن أجل التحويل من الرصيف الذي كان فيه علىالرصيف المراد السير فيه لاحقا، وأطلق سائق القطارصفارة الانطلاق وهو يخفض عصا القيادة لأسفل.

في تلك اللحظة انتبهت هنومة لصوت إغلاقالتحويلة، فنظرت فإذا بالقطار يبدأ بالتحرك، كانتتحاول أن ترفع يد قناوي اليمنى الملتفة حول رقبتهالتتمكن من الفرار، بينما السكين مرشوقة في الأرض(3) ، وتدافعت عربات القطار لتدفع بعضها بعضابإحداث صوت تصادم الحديد، وسُمع لعجلاتهاطقطقة بعد أن بدأ بالتقدم الذي زاد مع تقدم بضعةأمتار.

وتقدم القطار أكثر؛ بينما لا زالت هنومة تقاومه، هنارفع قناوي يده من على رقبتها وضغط بها علىظهرها، كما رفع سن السكين من الأرض شاهرا إياهاعلى ظهرها بينما لا زالت هنومة تحاول الإفلات (4) ،والملاحظ يصرخ بأعلى صوته وهو في قمة الذعروممسك بكشاف صغير للإضاءة حيث كان الوقتمساء إلى سائق القطار بأن بتوقف حتى لا يفرمهم(5).

لما أدركت هنومة باستحالة الفرار استسلمت للموت،فثبتت لا حراك فيها في انتظار الموت دهسا تحتعجلات القطار، أما قناوي فلم يكترث لتقدم القطارنحوه وظل ثابتا لا يتحرك (6) .

حدث نفسه عندئذ: كده كده أنا ميت بعد أن عرفواالحقيقة بأني أنا الذي قتلت حلاوتهم، فلتمت معاياهنومة كمان.

واستقر القطار وأضيئت كشافات رجال الأمن وسُلطتعلى موقع هنومة وقناوي، بينما وضع قناوي يده فيمقدمة عينيه تحاشيا للضوء المنبعث من الكشافاتالعملاقة، ونظر حوله، فوجد الشيالين في المحطةينظرون إليهما، وكذلك صاحبات هنومة البائعاتالمتجولات في المحطة، ورجال الأمن، وأبو سريع الذييركض من خلفهم، وعم مدبولي الذي يملك كشكسجائر في المحطة والذي آواه وعامله كأحد أبنائه.

وحضر ممرضو مستشفى المجانين بناء على قول عممدبولي لرجال الأمن بأن قناوي قد ذهب عقله.

في تلك اللحظة أدرك قناوي أنه لا مفر من الهروب،فقرر أن يتخذ هنومة رهينة من أجل الفرار، ولذلك قالبكل حسم وإصرار:  «لو حد قرب لنا هقتلها، ماتسيبونا لوحدنا بقى

رغم أنه أدرك الحقيقة إلا أن أحلامه وأوهامه عاودتهمجددا وظهر ذلك جليا في قوله: «ما تسيبونا لوحدنابقى

هنا أدرك عم مدبولي أن الموقف تأزم وازداد خطورةفقرر أن يجنبه ارتكاب جريمة قتل بالحيلة والدهاء.

وتقدم عم مدبولي تقدما حذرا وهو في قمة الحزن وقالله متوددا: «قناوي يا ابني، رد عليّ ده أنا أبوكمدبولي

كان يحمل عم مدبولي آنذاك القميص الذي يرتديهمرضى مستشفى الأمراض العقلية في يده اليسرى(7) . وبهذه الجملة أراد عم مدبولي تهدئة نفسهالثائرة، بهذه الجملة أراد من خلالها أن ينتبه له قناويويعطيه أذنيه بكل أمن وطمأنينة، فعم مدبولي يعرفنقطة ضعفه معرفة جازمة.

ثم قذفه بجملة وهو يسير نحوه، وعلى وجهه علاماتالفرح المصطنعة، جملة يفكر فيها اللبيب قبل أن يقدمعلى أمر مهما كان إصراره عليه: «أنت زعلان ليه؟ دهأنا هجوزك هنومة

هنا بالفعل تعايش قناوي مع كلمات عم مدبولي التياخترقت قلبه على الفور، إذ إنها تتواءم مع أوهامهالمرتكزة في أعماق نفسه والذي يعتقد بواقعيتها فيالوقت الحالي.

وإمعانا في تأييد حجته كي يصدقه قناوي مد يدهنحو جيبه وهو يقول: «والمهر جايبهولك معايا أهوه(8)

وأخرجها فارغة من جيبه.

أدرك أبو سريع الذي يراقب المشهد مراقبة الواعياللبيب، ونظر في وجه قناوي فتأكد أنه يصدق كلام عممدبولي فانتهزها فرصة وتقدم بحذر وهو يزحف علىالقضبان باتجاههما، ولم يكن غريبا على أبو سريع أنيدرك ذلك فهو أعلم بشخصية قناوي الحقيقية بعد عممدبولي على الفور. فقد حلل شخصية قناوي بجملةقالها سابقا لهنومة: الكلمة الطيبة تطويه وتخليه زيالعيل الصغير، والكلمة الرضية تقلب كيانه وتخليمخه يشت ويعمل جناية.

وتقدم عم مدبولي أكثر وهو يجتاز القضبان.

قال: «قناوي يا ابني، الليلة دخلتك على هنومة، وأنابنفسي هكون من الشهود، هاعملك فرح كبير أوي،فرحك يا قناوي

هنا توقف عم مدبولي لحظة وهو ينظر إلى أبو سريعمن طرف خفيّ، واقترب أبو سريع أكثر منهما بزحفهعلى القضبان (9)   بينما بدأ قناوي تفتك به أحلامهالتي غيبته عن المشهد الحقيقي الذي هو فيه الآن،وبدأ يهيم في مضاجعة هنومة بعد أن يختلياببعضهما في مبيته الذي يحتوي على عشرات الصورالعارية لنجمات السينما العالمية.

أردف عم مدبولي قائلا: «سيبها مستريحة وقوم انتمعايا البس جلابيتك، جلابية الفرح، فرحك يا قناوي

وهنا أدرك عم مدبولي أن قناوي صدقه، وانتبه لهفحسب دون بقية الموجودين.

واستأنف: «فرحك يا قناوي، ده أنا هعملهولك أحسنفرح، بمزيكا والنور والزفة، قوم يا عريس. قومطاوعني ده أنا ما بجبش لك إلا الخير

ونظر عم مدبولي مرة أخرى إلى أبو سريع  من طرفخفي (10).

بينما قناوي لا يزال يعيش لحظات السعادة الغامرة،فقد كان يجول بخاطره أيضا أن عذاب السنين الذيعاشه بين الناس آن له الآن أن ينجلي، وآن لنفسهالمكبوتة بين النظر إلى نجمات الإغراء العالمية التيتزين حجرته أن تتحرر، وأن سخرية الناس له التيلازمته على مدار حياته كلها آن لها أن تزول، وأنعرجته لم تكن تعيبه في شيء مطلقا.

قد سلبتْ كلمات عم مدبولي الذي يثق فيه لبه وأذهبتعقله وعيشته في تلك الأوهام.

حتى إن أبو سريع سحب من يده السكين بعد عمليةتسلل ناجحة دون أن يشعر قناوي بذلك.

وظل يعيش في تلك اللحظات مسلوب الفكر والإدراكوالإرادة حتى عندما أقبل الممرضون نحوه وألبسوهالقميص لم يرد إليه عقله.

وخرج، خرج من البوتقة التي انصهرت فيها السعادة،انصهرت بكلمات عم مدبولي الذي يحبه دائما ويثقفيه.

وتبين له عكس ذلك تماما عندما نظر إلى الممرضينوالقميص الخاص بنزلاء مستشفى المجانين، رغم أنعم قناوي لا يزال يتقن دوره بعد أن تمكنوا من إمساكهتماما (11).

تأكد أن كل أحلامه ذهبت مع مهب الريح وخلفتورائها جحيما لا يحتمل.

استرد عقله المسلوب، لذلك صرخ، صرخ بأعلى صوته: «لا، لا، عم مدبولي متسبنيش. »

وأخذ يكررها والممرضون يسحبونه إلى الخارجاستعدادا لمواجهة مصيره المجهول.

صرخ لما خرج من الوهم الذي كان يحيط به إحاطةالسوار بالمعصم، ولقد كان حجم صرخته بقدر حجمالوهم الذي كان يعيشه.

صرخ بقدر إدراكه أنه المسكين الذي لطالما عاشلتحقيق أمل واحد في حياته، هو الزواج بهنومةلإشباع رغبته الجنسية والخروج من النقص الذييعيشه منذ أن أدرك الحياة.

(1) التحويلة: هي مجموعة من القضبان الحديديةتسمح للقطار بالإنتقال المرن من سكة إلى أخرى أي أنيغير طريق سيره. أهم أجزاء التحويلة هي اللسانالقابل للحركة والذي يتحكم به محرك فيغير مكانهالنهائي قبل قدوم القطار.

(2)ربما كان على المخرج أن يظهر قطرات الدم وهيتنسكب من على وجهه قطرات على كتفه الأيمن ، حيثكانت الدماء تغطي نصف وجهه الأيمن وقد بدتمتجلطة، مما يعني أن حرارة الشمس قد تمكنت منتجلط الدم.

(3) ربما كان من الأفضل أن تكون السكينة على رقبةهنومة.

(4) وربما كان على المخرج أن يظهر محاولتها للتحركيمين القضبان أو يساره مع مناشدة قناوي بالصراخللانحراف عن سكة القطار حتى لا يفرمهما معا

(5) الملاحظ كان يتابع المشهد من أوله، فربما كان يجبعليه أن ينادي على سائق القطار من بداية صفارةالانطلاق.

(6) ربما كان على قناوي الابتعاد عن سكة القطار، فهوكان في كامل وعيه والدليل أنه عندما حاول رجالالأمن التقدم نحوهما قال:  لو حد قرب لي هاقتلها.

(7) ربما وجود الثياب يمثل خطأ ولاسيما أن قناوييبيع الصحف التي تحمل الكثير من صور تلك الثيابكثيرا.

(8) ربما خروج يد عم مدبولي من جيبه فارغة يمثلخطأ، فلو خرج بالحافظة ولو كانت فارغة لمثل حبكةجيدة

(9) ربما تكون هذه النظرة تلفت انتباه قناوي وقدسبقها من قبل خروج أبو سريع من  من وسط الصفالذي تقدم منه عم مدبولي.

(10) ربما كرر نفس الخطأ بنظره لأبو سريع الذي باتعلى مقربة من قناوي ولا تزال السكينة في يده

(11) ربما كان يجب على عم مدبولي أن تذهبابتسامته ويتقلص ملامح وجهه ويدمع دموع العبرةوالتأثر فور أن استمكنوا منه، لكنه ظهر يبتسم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق