مقالات
القرى المهجرة / بقلم أسماء الياس
أقف على مشارف بلد كانت في يوم ما تغص بالبشر. تلك البلدة التي شرد أهلها سنة 48 يوم غزا المحتل أرضنا وطرد أهلها.
استعدت ذكريات ما زالت مخبأة بعقلي منذ طفولتي الغضة. حدثني عنها جدي عندما كنت صغيرة، قال لي هنا في هذه القرية كانت البيوت عامرة بأهلها، أطفال يركضون يلهون لا ينفكوا عن اللعب والشيطنة، كانت البيوت مليئة بالخيرات، فقد كنا ناكل مما تنتجه الأرض، في تلك الأيام كانت الأرض كريمة تعطينا الخيرات، وكل شيء كان طيب المذاق. نجلس ساعات العصرية امام البيت نجتمع مع الجيران، وكل واحد منا يجلب معه من الطعام والفواكه والخضار. ناكل ونتسامر ونتحدث، كانت العيشة هنية والحب كان الرابط الذي يربطنا ببعض.
ذكريات جميلة جدا مرت بذاكرتي مثل السهم، سرعان ما استعدت نفسي حتى أعود لحاضر مليء بالعنف والقتل. لكنها تبقى ذكريات أستعيدها كل فترة حتى اذكر نفسي بأننا ولدنا هنا وسنبقى هنا.
عدت إلى البيت وفي جعبتي الكثير من التساؤلات. وجدت والدي جالساً على الشرفة، سألته:
– متى يستعيد الفلسطيني أرضه؟ ومتى يعود النازح الى بيته وأرضه؟ لماذا إلى اليوم لم تقم دولة فلسطينية لها حدود ومطار وعملة وكيان؟ لماذا العرب يهرولون للتطبيع مع المحتل؟ لماذا حقوقنا مهضومة؟ إلى متى سيبقى هذا الصراع العربي اليهودي؟ متى سنعيش بأمن وسلام يرفرف مثل العلم على السارية؟ متى سيتوقف زهق الأرواح؟ العنف زاد وغطى، الخوف من المستقبل ما يشغل بالي، ماذا ينتظر الجيل القادم؟ لماذا علينا ان نحارب من اجل حقوقنا التي من المفروض أن تكون بين أيادينا؟ متى يعود أهل القرى المهجرة؟ هذا آخر سؤال.
– الحل يا ابنتي بكل ما ذكرتيه بين أيادي الحكام، ومع من لهم القوة والسلطان، باختصار من يملكون القدرة على فرض املاءاتهم على الغير لأنهم يتحدثون من مركز قوة. والقوة اليوم بالعلم بالاختراعات بقوة السلاح، من يمتلك أسلحة مدمرة يهاب جانبه. ومن هم الذين يمتلكون أسلحة دمار شامل هم أقوى الدول؟ وهم من يتحكمون بسياسة الدول الضعيفة واقتصادها.
– نعم يا والدي هذه القضية لن ترى النور ما دام يوجد طغيان، وما دام يوجد دول فقيرة وشعوب مقهورة، وشعوب تهرب من أتون الحروب. ألم يفكر أحد ما في العالم أن ينهي هذا الصراع بين قوة الخير والشر؟ لأنه كما يبدو الشر دائما هو الذي يفلح، أما الخير مسكين لا حول له ولا قوة. هل يا ترى توجد أيادي تساعد الشر بالانتشار؟ والخير ماذا به. هل يا ترى يده قصيرة؟ أو أنه لا يمتلك من يدعمه؟ شيء محير يا والدي.
– يا ابنتي القضية ليست نزاع بين قوة الخير والشر.
– إذا ما هي القضية يا والدي؟
– القضية هي مصالح مشتركة. أنا لدي مصلحة لديك أصبحنا ندعم بعضنا البعض، حتى لو داسوا على رقاب العالم، حتى لو عانى من جراء ذلك الشعوب الفقيرة، المهم تمشي مصالحك وعلى الدنيا السلام.
– يشغل بالي شيء آخر.
– ما هذا الشيء الذي يشغل بالك؟
– اليوم عند عودتي من العمل مررت بقرية مهجرة أنا وصديقتي هيفاء جلسنا تحت شجرة الجميز نتفيأ بظلالها والنسمات العليلة تنعش الأنفاس، تذكرت حكايات جدي عندما كان يروي لنا قصص تلك القرى التي هجر أهلها بعد أن قتلوا من تلك القرية عشرة من الشباب حتى يرهبوا باقي السكان ويضطروهم للرحيل. وبالفعل رحلوا للدول المجاورة، لكن عاد منهم الأغلب بعد أن تم احصاء السكان وبفضل الشيوعيين الذين بادروا بمساعدة اهل البلاد حتى يعودوا قبل فوات الأوان، وكنت انت يا والدي من المبادرين الذين أعادوا الكثير من العائلات للبلاد. والذين وقفوا معهم وأفشلوا قضية الهويات الحمراء التي كانت بمثابة تصريح مؤقت للإقامة، بعد أن رفع المحامي حنا نقارة دعوة في المحكمة العليا ونجحت القضية بفضل الشيوعيين الأبطال. لكن الذي يشغل بالي تلك القرى المهجرة لم يسكن بها أحد بقيت هكذا على حالها الكثير من البيوت التي أصبحت مع الأسف. اليوم أطلال تبكي على حال كيف تغير وتبدل. هل سيعودون أهل تلك البلاد؟ ولماذا طردوا ساكنيها ما داموا لا يريدون اعمارها؟
– لا تشغلي بالك لأن الذي ساعد المحتل قبض الثمن، واليوم يعيشون أحفاده بقصر فخم. لكن أهل هذه البلاد لن ينسوا وستبقى هذه القضية تتناقلها الأجيال جيل بعد جيل حتى يأتي الجيل الذي سوف ينهي احتلال دام سنين. وتبقى القرى المهجرة وسام على صدر كل فلسطيني…