مقالات
نافذ أبو حسنة .. المهد في فلسطين واللحد في بيروت
.. عاش نافذ في دمشق، ودرج في مخيماتها، وتخرّج في جامعتها، وعمل بلا هوادة في سبيل أفكاره وانتمائه السياسي وثوابته الوطنية، وترافق مساره مع صديقه شوقي أبو شعيرة يداً بيد في هذا العالم الموحش والمتوحش. وما كان يخطر في بال أي واحدٍ منهما أن يغادر دمشق إلا إلى بيروت موقتًا أو إلى فلسطين نهائيًا. لكن الأيام فرّقتهما وطوّحت بهما: شوقي إلى المهجر الأوروبي، ونافذ إلى البرازيل، ثم إلى مكان معتمٍ في بيروت لا يزور فيه أحدًا ولا يُزار.
أمضى بعض سني عمره في دمشق بلا أوراق رسمية بعد أن امتنعت السفارة المصرية عن تجديد وثائقه
أمضى بعض سني عمره في دمشق بلا أوراق رسمية، بعد أن امتنعت السفارة المصرية عن تجديد وثائقه جرّاء كتاباته عن كامب دايفيد واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية والسياسة الخارجية المصرية. وأخيرًا أمكنته الأحوال من أن يحوز له ولعائلته أوراقًا رسمية سورية ثم فلسطينية. وكانت دمشق المدينة الوحيدة التي منحت نافذ أبو حسنة حضنًا يهجع إليه، وأزاحت عنه شعور الغربة، فابتنى بيتًا في مخيم خان الشيح، ليضمه وأولاده وزوجته، فإذا بالأهوال السورية تفتح رحمها، وتقذفه إلى بيروت المثقلة بالآلام، وتقذف عائلته إلى البرازيل في أقاصي الأرض. وفي خان الشيح، حرق الإرهابيون التكفيريون منزله ومكتبته التي جمعها برموش العينين، واحتوت تسجيلاتٍ نادرة لأعلام فلسطينيين، ووثائق من المحال العثور عليها مجدّدًا. وقبيل إحراق منزله اتصل به الحارقون هاتفيًا لينكّلوا بعواطفه، وقالوا له سنحرق كل ما بنيته.
القلب في البرازيل والجسد تحت التراب في مدينةٍ باتت كلها تحت التراب
بعد دمشق، ما عاد يعرف أين يستقر. أَفي بيروت التي تلفظ الفلسطينيين، أم في البرازيل الت تستقبلهم ثم تنساهم؟ ولولا عمله في مؤسسة إعلامية ذات ترخيص، أي قناة “فلسطين اليوم”، لما أمكنه الحصول على إقامةٍ شرعية. وكم تمنى أن يعود إلى دمشق ليقيم فيها، لولا هجرة عائلته إلى ذلك المنفى الفاغر الذي يبتلع كل وافد جديد. غير أنه أراد، وبقوة، أن يجد لعائلته (زوجته وأربعة أولاد) مأوى وجواز سفر، كي يعيشوا بكرامة في هذا العالم الذي دأب على إقصاء الفلسطينيين وتهميشهم، بل حتى تهشيمهم. ولم يجد غير البرازيل التي تعفي الفلسطينيين من سمة الدخول، على أن تكون محطةً مؤقتةً لعائلته، قبل أن تتمكن من الانتقال إلى أوروبا، فهناك ستكون قريبة من بلاد الشام، وبالتحديد من فلسطين. إنه لعارٌ أبدي يجلل هامات جميع قادة السلطات العربية التي تُرغم الفلسطيني على أن يصبح شريدًا بين الهند والبرازيل، وهائمًا يفتش عن مكانٍ يهجع إليه أو قبرًا يحثو التراب فوق جسده حين يُطلق زفرته الأخيرة.
كان يعارك أيامه عراكًا؛ تعارك مع الفصائل المتخثرة، ومع الدجل السياسي والأفكار السقيمة، ومع الكذب اليومي
.. في الفترة الأخيرة، انطبقت عليه مقولة غرامشي التي كان يردّدها هشام شرابي كثيرًا في لقاءاتنا في بيروت: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. وفي إحدى المرّات ترافقنا إلى الدوحة. وفي مطار بيروت ودّع ابنه المسافر أيضًا في اتجاه آخر. كان ذاهبًا إلى طهران، ليجلب شهادة تخرّجه قبل أن يعود إلى بيروت، ليلتحق بأخوته في البرازيل. في لحظة الوداع، رأيتُ الدمع في عيني نافذ، وهو يرمق ابنه الشاب كأنه لن يراه ثانية، تمامًا مثل مدينة رفح التي غادرها طفلاً ولم يعد إليها البتة. ومن أجل العودة، التحق بقوافل النضال الفلسطيني ليجد نفسه، بعد أن دار الزمان دورته، منخرطًا في الانقسامات الفلسطينية التي لم تنجز شيئًا غير الموت والشرذمة والرثاثة الفكرية والسياسية. ومع ذلك، ظل نافذ يناضل بالقلم والمقالة والحوار لإعلاء شأن التفكير العقلاني وإنقاذ الذاكرة الفلسطينية من المحو والاندثار. وفي هذا الميدان، كان نافذ زميلنا في مشروع “ذاكرة فلسطين” في نطاق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
لم يتوقع صاحب “مقام البكاء” (رواية، 2000) و”عسل المرايا” (رواية، 2015) أن تكون بيروت مكان إقامته الأخيرة. ويبدو أن بيروت التي لوّعتنا كثيرًا ستكون قبر معظمنا. ما أبعد المسافات إذًا: القلب في البرازيل والجسد تحت التراب في مدينةٍ باتت كلها تحت التراب، بعدما حوّلها وحوش الطوائف وفينيقيو التجارة ركامًا.
سلامًا لاسمك، يا نافذ، ولأعمارنا التي صرفناها كلنا في معمعان الدفاع عن المبادئ والأخلاق والمستقبل، ولم تغيّرنا صروف الدهر.
المصدر : العربي الجديد