الدين والشريعة
ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلا لمأكلة”…حقيقة خالد بن الولديد سيف الله المسلول.
في الآونة الأخيرة ظهرت نماذج غريبة لشخصيات يتفاخرون بكونهم أعلاماً ومثقفين في العالم العربي، آخذين بزمام نشر العقلانية بين صفوف اللاعقلانيين أو المتدينين، وحين تقرأ كتاباتهم وتسمع حديثَهم فلا تجد إلا نقلاً واستنساخاً وإعادة تدوير لما كتبه المستشرقون قبل مئات الأعوام؛ ولا تكاد تجد الواحد منهم قد اجتهد وشمّر عن ساعديه وغاص في كتب القدامى وقرأها قراءة علمية محضة، إنما الأمر مجرد اقتباس من هنا وهناك، ومحاولة إلصاق هذا بذاك، وفي النهاية الحصول على صورة مشوهة للعقائد الدينية، والأحداث التاريخية، ولعل أبرز صور هذا التشبيك والإلصاق ما حدث مع صورة سيدنا خالد بن الوليد، فمن سيف الله المسلول، وقائد عسكري محنك، إلى شيف/طباخ متخصص في شي وطهي الرؤوس!
في الآونة الأخيرة ظهر علينا صحفي سعودي يصف الصحابي الجليل بالدموي، ويعتبر أن تاريخ الفتوحات الإسلامية يجب نسيانه، فهل كان خالد بن الوليد رضي الله عنه دموياً؟ وهل تتوقف الأمور عنده أم أنهم سيصلون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم ما؟ فلندع التاريخ يخبرنا الحقيقة.
القصة التي تثير دوماً الشبهات والتساؤلات حول خالد بن الوليد هي حادثة قتله لمالك بن نويرة وزواجه من امرأته، فما حقيقة هذه القصة التاريخية؟
مالك هذا هو أحد رجال بني تميم، بل سيد قومه، وكان قد أسلم في عام الوفود “التاسع الهجري”، ولمكانته عيّنه النبي صلى الله عليه وسلم على الزكاة، فكان يجمع الزكاة من القبائل التابعة له (بني حنظلة) ويرسلها إلى المدينة، وأحسن مالك في عمله في عاميه الأول والثاني، فلما حلَّ عامه الثالث جمع زكاة القوم وهدفه أن يدفعها لرسول الله في المدينة، إلا أنه غيّر رأيه وقرّر أن يعيد الزكاة لأصحابها (نصحوه بألا يفعل)، وذلك لأنه سمع خبر وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان من رأيه أن وفاة رسول الله تعني انقضاء العهد بينه وبين المدينة.
في المدينة كان الخليفة الجديد سيدنا أبوبكر الصديق يراقب الوضع عن كثب، ويستقصي أخبار جزيرة العرب، فوصل إلى مسامعه ما حدث من ارتداد عن الدين ومجاهرة بالعصيان -بقي على الإسلام المدينة ومكة والطائف- واستعداد بعض القبائل لمواجهة المدينة، عاصمة الدولة.
في شمال الجزيرة العربية، ومن سلالة تغلب، القبيلة التي دوّخت العرب وقيل فيها “لولا الإسلام لأكلت تغلب العرب”، خرجت امرأة ذات حسب ونسب وقول، تدعى “سجاح بنت الحارث” تقود جيشاً جراراً جمعته بعد أن ادعت النبوة ووعدت الناس ببلح المدينة وغنائم مكة، واستطاعت السيطرة على مناطق متعددة من الشمال، واستمرّ زحفها إلى أن وصلت حدود قوم “مالك بن نويرة”، وكانت ومالك يجتمعان في النسب، ولهذا قرّرت أن تشركه في أمرها، فرفض أول الأمر، إلا أنها أغرته بالملك فدخل معها في الحلف، وشاركها أحلامها في السيطرة على المدينة المنورة، إلا أنها وأثناء تحركها واجهت حلفاً قوياً تَمثَّل في قبائل بني النجيم وبني عمرو ومن تأشب إليهم، دافعت القبائل عن أراضيها عصبيةً لا نصرةً للإسلام، واستطاعت هذه القبائل المتحالفة أن تُوقف زحف سجاح هذه، وتأسر معظم قادتها، فصالحوها على أن تعود عن أمرها، ورضيت وارتأت تغيير الوجهة نحو “اليمامة”؛ حيث مسيلمة الكذاب. ومسيلمة هذا قصته معروفة، فقد ادَّعى النبوة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع بعد وفاته جيشاً عرمرماً أراد به غزو المدينة؛ فالتقت به سجاح وأعجب بها وأعجبت به وشهدت له بالنبوة وتزوجها.
قرَّر المسلمون في المدينة بأمر من الخليفة الزحف على القبائل المرتدة، وإعادتها لجادة الصواب، قرار اختلف فيه الخليفة مع سيدنا عمر بن الخطاب، والقصة معروفة، فكان عمر يرى عدم الحاجة لقتالهم لأنهم ينطقون الشهادة، ورأى سيدنا أبوبكر ضرورة قتالهم، وبحكمته استطاع أن يدرك أن منعهم للزكاة ليس سوى البداية فقط، فالزكاة مجرد إحماءات، ولهذا كان القرار واضحاً “لأقاتلنهم ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم”.
لم يشهد المسلمون فتنةً كتلك التي وقعت في هذه الفترة، ولعل الجيوش التي جُمعت لمهاجمة المدينة كان بإمكانها محو المدينة عن الوجود، لولا فضل الله وشجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفراسته وحسن اختياره، فقد اختار صاحبا رسول الله لهذه الفتنة ثلة من القادة الشباب، أصحاب الإقدام، ومن هؤلاء “كرمة بن أبي جهل” (كان رسول الله قد عفا عنه بعد أن أمر بقتله فأسلم وحسن إسلامه) و”خالد بن الوليد”، وخالد كما هو معروف لُقب بسيف الله المسلول، ودعا له رسوله الله بالنصرة، فكان سيفه كملك الموت، إذا نزل بساحة القوم فساء صباح القوم وأهلهم، وكان مهابَ الجانب في جاهليته وإسلامه، ومَن مِنّا لا يتذكر يوم أحد، يوم فعل ما فعل في المسلمين.
وزّع الخليفة جيشه، فأرسل خالد بن الوليد لطليحة، وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح، وأمر عكرمة بن أبي جهل بالذهاب لليمامة، وأردفه شرحبيل بن حسنة، ووجّه عمرو بن العاص إلى قتال المرتدين من قضاعة، وهكذا بعث كلَّ قائدٍ إلى منطقة محددة، واختار كما هو واضح أذكى وأدهى القادة؛ لأن هذه الحرب حربُ حياةٍ أو موتٍ، وإن انهزمت جيوشُ المسلمين فلا قائمة ستقوم للإسلام بعدها، وهكذا سار القادة إلى مهامهم، على أن يتجه كل منهم للقبائل الأخرى بعد أن يفرغ من مهمّته (توجّهوا لهذه المناطق لكونها قلب الفتنة، والقضاء عليها سيُفزع البقية).
وصل خالد إلى مالك وقومه، فطلب مقابلة مالك، وجرى بينهما حوار طويل، ننقل منه جزءاً مما ذكره ابن خلدون: “قال مالك: فَعَل صاحبُكم، وما شأنُ صاحبِكم، فقال له خالد: أَوَلَيس لك بصاحبٍ؟”
ففهم خالدٌ رضي الله عنه أن مالكاً قد ارتدَّ عن الإسلام فقتله.
يقف ابن خلدون عند قتل خالد لمالك دون أن يضيف شيئاً آخر؛ لأن هذا ما حدث فعلاً، فحين قَتل خالد مالك بن نويرة لم يطبخه كما يزعم المدلّسون؛ بل أكمل طريقه نحو هدفه “اليمامة”، يريد رأس مسيلمة الكذاب، وأما خبر زوجة مالك فقد تزوّجها خالد ودخل بها بعد أن أكملت عدتها، لا كما يحلو لمدلّسي القول بأنه دخل بها من ليلتها، حاشا سيفاً من سيوف الله أن يتجرأ على حدود الله، ولو فعل لعوقب دون أدنى شك، والذي وقع في خبره هو أن بعض الصحابة أخذ عليه تسرعه في قتل مالك، ولكن إذا ما تأمّلنا ما أقدم عليه مالك من خيانة لدولة الإسلام والتواطؤ مع الخارجين عليها، والتدبير لغزوها وإراقة دماء المسلمين والمستضعفين، فإننا نجد أن الحكم عليه بالموت جزاؤه جزاء موفوراً، واليوم ما جزاء من يفعل ما فعله نويرة في دولة علمانية لا إسلامية؟ أليس الموت بتهمة الخيانة العظمى؟!
لم يكن الفاتحون المسلمون أصحاب غدر وخيانة، ولا أهل استباحة للمنهيّات، فقد ربّاهم خيرُ خلق الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، يقول عالِمُ الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، الفصل الرابع، ص220-221 (طبعة مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة):
“وأُكرهت مصرُ على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دَرَكات الانحطاط مقداراً فمقداراً إلى أن جاء العرب… وكانت تعُدّ من يُحَرِّرونها من أيدي قياصرة القسطنطينية مُنقِذين، فحُفظ هذا الشأن للعرب”.
ولم يكن المسلمون أهل بطش وطغيان، ولتذكر ما فعله صلاح الدين بأهل القدس من النصارى واليهود من إحسان يفخر به كل مسلم حنيف، هذا فعله صلاح الدين وفعله غيره من المسلمين المتأخرين، فكيف بصحابي جليل كخالد بن الوليد رضي الله عنه، القائد العسكري المحنّك الذي أوقف جحافل الردة، وقهر الروم ودوّخ الفرس، هل يصدق عاقل أنه يطبخ رؤوس أعدائه، بل ويأكلها وحده دون أن يلقم جنده لقيمات!
مع أن الوحشية هي أبعد ما تكون عن خالد أو أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، يقول ول ديورانت في كتابه “قصة حضارة”، الجزء الثاني من المجلد الرابع، ص82-83:
“ولقد كانت جيوش العرب خيراً من جيوش الفرس والروم… لقد كان في وسعهم أن يحاربوا وبطونهم خاوية… ولكنهم لم يكونوا في حروبهم همجاً متوحشين، انظر إلى ما أوصاهم به أبوبكر…”
يوصي أبوبكر الصديق الصحابة المجاهدين فيقول:
“يا أيها الناس، قِفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
– لا تخونوا ولا تُغِلوا
– ولا تغدِروا ولا تُمثّلوا
– ولا تقتلوا طفلاً صغيراً
– ولا شيخاً كبيراً ولا امرأةً
– ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه
– ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً
–
ما يحدث اليوم وحدث من قبل هو أن الإعلام المُسيس والصالونات مدفوعة الأجر لم يتركوا في الإسلام شيئاً إلا أخذوه بالنقد اللاذع الهدام تارة، والانتقاص والاستهزاء غالب الأمر، ولم يكتبوا عن حدثٍ ولا عن شخصية إسلامية إلا زيّفوها، فلم يكتفوا بالملوك والفاتحين، بل تطاولوا على صحابة رسول الله، وعيونهم في الحقيقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتقاصُ منه مباشرةً يفضحُهم، ولهذا يمرّون للصحابة، وضمنياً وبشكل غير مباشر يقذفون في الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولو تتبعتَ تدويناتِهم وكتاباتهم لتعرفنّ هذا وأكثر.
مقالات الرأي المنشورة في عربي بوست لا تعبر عن عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع
انتيغرال ميديا ستراتيجيز ليميتد أو الجهات المرخصة لها (وخاصة عربي بوست) 2020©