عواصم ثقافيه

الهروب من سجن الرملة بقلم حمزة يونس سرد القصة الحقيقية كاملة

اimageلفصل الأول
نقوش في الذاكرة

لا أتذكر تفاصيل طفولتي المبكرة ، لكن ثمة ملامح منقوشة في ذاكرتي ، فما تزال ” المسقاة” وهي ناحية من نواح قرية عارة حاضرة بوضوح رغم تراكم السنين المثقلة بالمشاهد والأحداث .

كانت المسقاة تمتاز بوفرة المياه المتدفقة من عينها المجاورة لدارنا وتتجمع في بركة عميقة لتنطلق من الجانب الآخر إلى المزارع والبساتين .

على بعد أمتار قليلة من تلك البركة وفي ظل أشجار التين، واللوز ، والمشمش والجوزيقع بيت إبراهيم مصطفى سلامة يونس .
في ذلك البيت ولدت تعلمت السباحة وأتقنتها كإخوتي وسائر أطفال قريتي في مرحلة الزغب الأول .

أتذكر أنني كنت أمتاز عن إخوتي وأبناء عمومتي بالميل إلى الهدوء والنفور من العنف ، ورغم ذلك كان جدي مصطفى يلقبني بأبي ضرغام ، ويسميني ” البطل” !
هل كان الحاج مصطفى يتوقع أو يتمنى أن أصير بطلا، أم أنه كان يعتبر الهدوء من علامات البطولة ؟ جدي أيضا كان يمتاز عن إخوانه أو عن بعضهم بعدم الميل إلى العنف .
كان هادئا ، وقورا يرعى الأشجار ويجود بالثمار ولا يميل إلى الشّجار .

الحياة في قريتنا كما هي في القرى المجاورة ، تسير في رتابة وبساطة : حرث ، فزراعة ، فحصاد.
ربما كانت الأعراس والمشاجرات القليلة تكسر الرتابة وتثري أحاديث القرية بشيء من الطرائف،لكن الجدية تظل السمة الأكثر بروزا في تقاسيم تلك الحياة.

ذات يوم حزين داهم الغراباء قريتنا ، أعلنوا حظر التجول ، وراحوا يفتشون البيوت وينهبون المواشي وما يحلو لهم .
تساءلت يومها – وكنت في السادسة من عمري- كيف سمح المختار لهؤلاء الغرباء بدخول القرية؟! كان المختار بدينا وجريئا ، فلماذا لم يتصد لهم ؟! كنت حينذاك لا أتصور أن هناك قوة يمكن أن تقف في وجه المختار!

قبل ذلك اليوم المخيف كنت أسمع عن هجمات يشنها اليهود على بعض القرى المجاورة كقرية (كفر القرع) ، وكان رجال قريتنا يهبون لنجدة تلك القرى وينجحون في صد الهجمات اليهودية .
لكن ماذا تعني كلمة (يهود) بالضبط؟ ما كنت أفهمه من سياق الحديث هو أن هناك مخلوقات مجهولة ومخيفة كالجن والغيلان .
وحتى لو كانت كذلك فالمختار ضخم الجثة، شديد اللهجة وهو فوق ذلك يحمل عصاة.

وحين شاهدت الغرباء فوجئت بأنهم يشبهون الناس تماما فليس لهم قرون ولا أنياب ولا مخالب ، لكنهم يحملون أنواعا من العصي بعضها طويل وبعضها متوسط في طول عصاة المختار .
ربما أدركت حينها أن ثمة فرقا يجعل تلك العصي مخيفة أكثر ، ولكن كيف لم يتمكن رجال قريتنا من التصدي لهؤلاء اليهود ما داموا رجالا مثلهم ، وما داموا –كما سمعت سابقا- قد طردوهم من كفر القرع؟ لم أجد إجابة على مثل هذه التساؤلات تحد من صمتي وخوفي ، ثم عرفت في وقت لاحق وبعد أن تركت التساؤلات الحائرة أثرها وفعلت فعلها في نفسي ، أن القرية سلمت تسليما وأن هناك من هو أعلى وأقوى من المختار .

تقع قريتناعارة ، وعرعرة ضمن منطقة المثلث العربي الشمالي ، وتشمل هذه المنطقة 22 قرية لم تسقط بالقتال،بل جرى تسليمها بموجب اتفاقية رودس، فصدرت الأوامر بانسحاب الجيش العراقي وجيش الإنقاذ منها .
وكانت مدرسة عرعرة مقرا لقيادة الجيش العراقي الذي درب ونظم رجال القريتين لمقاومة العصابات اليهودية .

وفجأة ودون مقدمات مفهومة ، جرى الانسحاب فدخل الغرباء دون قتال وعملوا على إذلال الأهالي ، فنصبوا أمام جامع عارة قوسا كبيرا يعلوه علم غريب وأمروا رجال القرية بالاصطفاف والمرور من تحت القوس ، وتمكن بعض الشبان والرجال من الاختباء هربا من المرور الإذعاني ، ولكن الذين أفلتوا منهم لم يجرؤوا على التباهي إلا همسا ولبعض الثقاة فقط !

شن حرس الحدود، وهم أكثر شراسة من الجيش، حملات تفتيش ونهب وتخريب بعد أن جمعوا رجال القرية وأمروهم بالجلوس على الأرض .
وبسبب ما رأيته وسمعته من ممارسات حرس الحدود ، شعرت لأول مرة بالخوف .
كيف يجلس الرجال على الأرض؟ وكيف يسمحون للغرباء باقتحام منازلهم ،أدركت أن مواسير الحديد، التي يحملونها ، هي سبب ذلك الإذعان الذي جعلني أشعر بالخوف ، وكم أزعجني هذا الشعور الجديد، فصرت أفكر في أن أتعلم شيئا ما للدفاع عن نفسي .

علمني كتاب القرية وتقاليد العائلة أن السرقة والقتل حرام، وأن احترام الكبير والعطف على الصغير واجب، لكن تصرفات هؤلاء الغرباء تخالف كل ما تعلمته ، هم إذن من نوع غريب يختلف عن الناس وإن كانوا مثلهم شكلا ؟ ليسوا من الجن ولكن ليسوا من الإنس أيضا! هم على الأقل ليسوا كأهل قريتنا .
إنهم يكرهون العرب ويطلقون على كلابهم أسماء عربية! وهؤلاء الذين يقال لهم حرس الحدود يقتلون لمجرد الرغبة في القتل ودون تمييز بين صغير وكبير فمن أية طينة هم ، ومن أية غابة جاءوا .

ها هي سياراتهم تأتي بالجثث المجهولة ، ويأمر أهالي قريتنا بدفنها بسرعة في مقبرة القرية ، بعد إغلاق مداخلها وحظر دخولها على أهالي الجوار.
كانوا يجردون القتلى من أي شيء يدل على أسمائهم أو أشخاصهم .

في ذلك الجو الرهيب تعلم أهلنا الصمت والتحفظ خوفا من عقوبات الحاكم العسكري الذي كان مخولا باتخاذ أي إجراء ضد الأهالي دون الرجوع إلى قيادته ، فكان من صلاحياته أن يسجن وأن ينفي ، و أن يصادر وينهب ويخرب.

في ذلك الجو كبرت وأنهيت دراستي الابتدائية ، والتحقت بمستعمرة (برقائيل) وهي أقرب (كيبوتس) إلى قريتنا ، حيث كان أولاد قريتنا يذهبون للعمل التطوعي يوم العطلة فيقومون بقطف الثمار ، وجمع الخضار ، ويذهب ريع ذلك اليوم لصندوق نادي القرية التابع لحزب (مابام) الاشتراكي اليساري .

وفي العطلة الصيفية كنا نذهب إلى كيبوتسات أخرى ونقيم فيها لمدة شهر ونصف ، وأغلب تلك المستعمرات تقع في منطقة الجليل .

بعد ذلك واصلت الدراسة في كيبوتس (هامعبيل) الذي بني على أنقاض قرية (كاكون) وهي قرية كنعانية مثل قريتي عارة وعرعرة.
وفي ذلك الكيبوتس التقيت بتلاميذ يهود فربطت بيننا زمالة الدراسة ، وصار لي منهم أصدقاء،وعلى الرغم من أنني كنت أعاملهم كأصدقاء فعلا وأحرص على صداقتهم ، فإنهم كانوا يتصرفون بشيء من التحفظ والعنصرية اتجاهنا نحن العرب .

وظهرت نظراتهم إلينا سافرة عندما ذهبوا للتدريب العسكري في (بير أورا) بمدينة إيلات على البحر الأحمر ، وكان النظام المتبع يقضي بتدريب أبناء الكيبوتسات في ذلك المعسكر عندما يبلغون السادسة عشرة ، تمهيدا لدخول التجنيد الرسمي بعد سنتين ، أي عندما يبلغون الثامنة عشرة .

عاد الزملاء من رحلة التدريب ، فجلسنا عربا ويهودا نتحدث عن رحلتهم ، وإذا ذكر أحدهم السلاح الذي تدرب عليه صاح به أكثر من واحد تذكر مع من تتحدث ؟

على أية حال كان أعضاء الكيبوتس يغلفون التمييز بغلاف من التعقل فلا يمارسونه علينا كما هو الحال في الشارع اليهودي ، حيث إذا اختلف عربي مع يهودي سرعان ما كان الأخير يصرخ قائلا : (عربي ، عربي،…)! وكان هذا بمثابة نداء لليهود وإشعار لهم بوجود شخص غير مرغوب فيه ، وسرعان ما يتجمع عليه اليهود من كل جهة ، ويوسعونه ركلا وضربا ؟ كانوا إذا سمعوا النداء المذكور ، تسابقوا إلى الفريسة ، وإذا سال دم عربي على أحدهم ، يكون الحق عليه عند الشرطة ، لأنه وسخ ثياب اليهودي بدمه !

فرض عليّ هذا الواقع أن أتعلم الملاكمة لأدافع عن نفسي ، ولا أكون فريسة سهلة تمارس عليها المزاجيات العدوانية المتعصبة ، فنجحت في الملاكمة بسرعة ، وبعد سنة واحدة من التدريب المتواصل حصلت على بطولة الدولة للناشئين في مباريات نظمت في بئر السبع عام 1962 .

وبعد سنة أخرى أصبحت أفضل الملاكمين ، وفي سنة 1963 حصلت على بطولة الدولة للملاكمة في وزن خفيف الوسط (63,5)كغ .

نظمت مباريات البطولة في (باطيم) وكذلك حصلت على بطولة (بيطار) في مباريات طبرية، وانضممت بعدها إلى نادي (بيطار) وصرت أتدرب فيه، كما صرت أتدرب في (بيت زئيف)و(مسدات زئيف) ، وهما مكانان كانا مخصصين قبل عام 1948 لتدريب أعضاء حزب (حيروت) على قتل العرب .

ما عرفته عن ماضي هذين الموقعين لم يؤثر في نفسي، ولا جعلني أشعر بالعداء تجاه ذلك الحزب، لأنني اعتبرت ذلك مجرد فعل ماض، بدليل أنني أتدرب في نوادي تابعة لحزب حيروت لهدف مختلف تماما، وأدرك الآن جيدا أن الذين كانوا يدربونني أو كان بعضهم على الأقل لا يرى بأسا في أن أصير بطلا لامعا ، ما داموا سينسبونني في هذه الحالة إلى (إسرائيل) ويكون ذلك لفائدتها دعائيا .

والحقيقية أن وصفي بأنني بطل إسرائيل في الملاكمة لم يكن يزعجني آنذاك،على الرغم من تعرضي لعدة مواقف سابقة ، تشعرني بأنني كعربي ، لست مقبولا كمواطن كامل الحقوق في هذه الدولة ، وتعمق هذا الشعور لدي عندما لاحظت قلة اهتمام الصحافة بي ، واتّصاف الصحفيين والحكام تجاهي بعدم الإنصاف ، وإن كانت مبارياتي توصف أحيانا بأنها من أجمل المباريات .

لا شك أن هضم حقوقي وعدم إنصافي من طرف الصحافة وأعضاء التحكيم كان يضايقني كثيرا ، لكن ما كان يضايقني أكثر هو أن الجمهور الذي يحضر مبارياتي لم يكن يكتفي بجولة اللعب ، وبالفوز، بل كان يصيح أثناء الجولات (دم ، دم ) أي يريدون أن تسيل الدماء !
كنت أجد عزائي في مدربي يعقوب فوفتش وهو يهودي روماني يكره التعصب والتفرقة العنصرية ، وكنت أحس بتعاطفه معي وبأنه متضايق من أجلي في كثير من الأحيان .

تأكد ذلك بشكل واضح عندما تقرر سفر منتخب بيطار إلى اليونان، وكان الطبيعي أن أكون ضمن المنتخب ، بل في مقدمته ما دمت البطل الأول في وزني .

وقبل الذهاب إلى التدريب في معهد (فنكت) ، تقرر أن تجري تصفيات لاختيار المرشحين للسفر ، واعتبرت أن من حسن حظي أن تجري هذه التصفيات في (ناتانيا) ، حيث جرت في ملعب كرة القدم (مكابي ناتانيا) .

وكان وصل إلى إسرائيل ملاكم جديد يدعى نسيم أشرف، وهو يهودي مغربي، احترف الملاكمة في فرنسا، وعند قدومه لعب عدة مباريات فاز فيها جميعا بسهولة ، وبالضربة القاضية.

وحسب الأنظمة والأصول المتبعة في الملاكمة ، كان كل منا يعرف مع من سيتقابل من ملاكمي وزنه، لأن لكل وزن نجومه وأبطاله .

وبينما كنا في غرفة الملابس ، تقدم مني ملاكم من نادي (بيطار ناتانيا) وهمس في أذني :
لا يريدون أن تسافر مع المنتخب !
فضحكت وقلت له :
أتوقع ذلك!
وكنت أتوقع أيضا أن يلجأوا إلى أساليب ملتوية ، ولكنني سألت ذلك الملاكم :
كيف عرفت ذلك ؟
فقال: إنهم يريدون أن تلعب مع نسيم أشرف لتخرج من بداية التصفيات!
فرددت عليه قائلا: سبق أن طلبت منازلة نسيم أشرف عندما كنا نلتقي مع بيطار تل أبيب حيث يلعب نسيم ، لكن الإداريين رفضوا لاختلاف الوزنيين ، فوزنه أثقل من وزني .
فقال: لكن الأمر الآن يبدو مختلفا لتعلقه بتصفيات السفر !

بعد هذا الحوار غادرت غرفة الملابس، وتوجهت إلى غرفة الإداريين وعندما اقتربت منها ، سمعت مدربي يعقوب يصرخ قائلا: ( فقط لأنه عربي؟!).

وحين دخلت ، صمت المدربون والإداريون ، فنظرت إلى مدربي وقلت له :
أريد أن ألعب مع نسيم أشرف!
رد المدرب عليّ صارخا :
أنا أعرف أنك ترغب في ذلك وهذا غير مقبول موضوعيا، لكن هؤلاء يريدونك أن تلعب مع نسيم لينتصر عليك فتخرج من بداية التصفيات .
فقلت: ومع ذلك أنا موافق !
أمسك المدرب يدي برفق وقال :
نسيم من الأبطال المحترفين ويستطيع أن يلعب 15 جولة .
فقلت: أعرف هذا ، وقد شاهدته، وشاهدت انتصاراته، أرجوك أن توافق على طلبي وطلبهم ؟
فأجابني قائلا: ولكنك لست من وزنه…
فقلت: أعرف هذا أيضا ، دعنا نختبر قوتنا .

هز المدرب رأسه موافقا على مضض، فتقابلت مع نسيم أشرف على الحلبة وبدأت المباراة.
أثناء اللعب كنت أرى مدربي يبتسم ، وخلال الاستراحة قال لي : (استمر هكذا).

وعندما انتهت الجولة الثالثة ، قفز مدربي إلى وسط الحلبة وراح يرقص فرحا ! لكنه توقف عن الرقص عندما فوجئ بالمذيع يعلن فوز نسيم ، فيقوم حكم الحلبة برفع يده!

وعلى الرغم من أن الجمهور كان من اليهود ، فقد علا صراخه محتجا على الانحياز المكشوف، وسمعتهم يرددون بالعبرية عبارة : (لدفوك أت هشخوريم).

وهي عبارة مناهضة للسود، تقال ضد العرب ، وتعمد الجمهور ترديدها لإشعار الحكم لأنه منحاز ، وأن النتيجة غير موضوعية! كان كبير الحكام (جاك ليفي) وهو المشرف على المرشحين للسفر ، قد قرر أنني المنتصر، ولكن الحكمين الآخرين خالفاه وقررا فوز نسيم .

سادت القاعة حالة من الفوضى الاحتجاجية،وبعد مشاورة سريعة جرت بين المدربين والإداريين أعلن المذيع أن اللاعبين كليهما سيسافران إلى اليونان .
هدأت القاعة قليلا بعد هذا الإعلان وتقرر فعلا أن نسافر معا وأن يلعب كل منا في وزنه .

وبقي نسيم من أصدقائي اليهود القلائل ، وأرسل لي سلاما بعد أن هربت من إسرائيل وانضممت إلى حركة فتح .

على بعد عشرة كيلومترات من مدينة ناتانيا، يقع كيبوتس (هاعوجن) الذي التحقت به لمواصلة التدريب ، ونظرا لبعد المسافة بين المدينة والكيبوتس ، فقد كنت أتأخر عن مواعيد التدريب أحيانا ، كما كنت أتحمل نفقات إضافية كأجرة للمواصلات .
ليس من السهل أن أجد مدربا مثل يعقوب فوفتش الذي كان مع بعض أصدقائي يخفف عليّ وطأة الشعور بالاضطهاد والقهر والظلم .

مسؤول الملاكمة في مدينة ناتانيا ومسؤول المنقذين يدعى شلومو وهو من حزب (ماباي) وكذلك رئيس البلدية .
اقترح شلومو عليّ خلال تدربي في نادي العمال ، أن أعمل مع ملاكم آخر كمنقذين على شاطئ ناتانيا الذي كان يعمل فيه عدد من المنقذين اليهود .

وافقت على الاقتراح وعملت منقذا حتى نهاية صيف 1962 م ، ووظيفة المنقذ في إسرائيل من الوظائف المحترمة التي لها امتيازات مادية ومعنوية ، حيث يحظى المنقذون بتقدير ملموس ويتقاضون رواتبهم حتى في فصل الشتاء.

لم يكن زميلي الملاكم الذي عمل معي كمنقذ يجيد السباحة ، لذلك لم يبدو متحمسا للعمل ، أما أنا فقد عملت برغبة وحماس ، لأن مهاراتي في السباحة لم تكن أقل من مهارتي في الملاكمة ، وقد تدربت سريعا على استعمال حسكة الإنقاذ ومارست العمل بجد وإخلاص .

في 15/09/1962 ، نظمت مسابقة في السباحة الطويلة لقطع عرض بحيرة طبريا البالغ 4,5 كيلومتر ، وعلى الرغم من أنه لم يسبق لي أن شاركت في مسابقات المسافات الطويلة ، فقد حصلت على الرتبة الرابعة من بين خمسمائة متسابق .

بعد ذلك تلقيت دورة تدريب على الإنقاذ والإسعافات الأولية في تل أبيب ، وعند بداية الموسم الصيفي حاولت مواصلة العمل كمنقذ ، لكنني فوجئت باعتراض المنقذين اليهود الذين هددوا بالإضراب عن العمل إذا انضم إليهم أي عربي !

تلقيت هذه الصدمة بكثير من الدهشة ، وتساءلت ، كيف وافق هؤلاء على عملي معهم في الصيف الماضي ولم أكن تدربت على الإنقاذ رسميا ، ولا شاركت في السباحة الطويلة ؟ وكيف يعارضون عملي معهم اليوم وقد صرت من السباحين المعروفين ، وحصلت على مؤهل للعمل كمنقذ !

رد شلومو على تساءلاتي هذه قائلا بصراحة : لم يكونوا يعرفون أنك عربي !

توقفت عن العمل مدة أسبوعين ، ثم رحت أهدد بترك ناتانيا ، والانضمام إلى أي نادي آخر ، وقد قصدت بذلك أن أضغط على النادي ليضغط بدوره على أولئك المنقذين العنصريين .
نجحت خطتي ، حيث جرى التوصل إلى حل وسط ، يقضي بأن أعمل منفردا على برج مستقل ، والتحقت بعملي على الشاطئ (عينت خيلت) في ناتانيا .
تعرضت خلال عملي على هذا الشاطئ إلى العديد من التحرشات ومحاولات الاصطياد من طرف نساء يهوديات وسائحات أجنبيات كن يستعرضن أجسامهن على الشواطئ، قبل أن يدخلن الماء ويقمن بحركات لافتة للنظر.
ولم أكن أكترث بالاستعراضات ولا بالحركات ، الأمر الذي جعل بعضهن يتوغلن في البحر ، ويتظاهرن بالغرق، فأذهب لأنقذهن ، ثم أكتشف اللعبة !

كان بعضهن يعرضن أنفسهن عليّ بوقاحة تخدش حيائي كرجل عربي ، وكنّ يستغربن منّي هذا الحياء غير المألوف لديهن ، لأنهنّ في الغالب يعتقدن أنني كالآخرين، وكانت عبارات الغزل والتحرشات من الأمور العادية على الشواطئ وفي الشوارع والأماكن العامة .

و أعتقد أن ما رأيته وتعرضت له من محاولات رخيصة ووقحة ، سبب نفوري من الجنس الآخر وانعدام ثقتي فيه ، بل وكراهيتي له أحيانا ، فأنا لم أشاهد واحدة متزوجة أو غير متزوجة رفضت طلب المنقذ .

كنا سافرنا في الشهر العاشر من العام 1963 م إلى اليونان، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين المرافقين كانوا من ذوي الحصانة الدبلوماسية ، فقد قابلنا اليونانيون بكثير من الاحتقار ، ولم يكترثوا باحتجاج الفريق الإسرائيلي .

وفي محالولة لتعويض تجاهلنا واحتقارنا في اليونان ، قرر اتحاد الملاكمة أن نستعد للسفر إلى تركيا لمقابلة الفريق التركي .

عدنا إلى إسرائيل وبدأنا نتدرب في (مسدات زئيف) بتل
أبيب، وقبل دخولنا المعسكر ، فضلت أن أسكن مع شقيقي الأكبر محمد وعدد من أصدقائه الذين كانوا يعملون في المدينة .

وذات يوم زارني صديقي الحميم ، ابن عمي مكرم يونس ، وذهبنا في المساء إلى نوادي الرقص على عادة الشباب هناك .
تنقلنا من ناد إلى آخر وقوبلنا بالترحيب ، لأنني كنت معروفا في هذه النوادي ولا سيما من طرف الرياضيين والمهتمين بالرياضة من شبان تل أبيب .

كان الرياضيون يترددون على هذه النوادي فيأكلون ويشربون دون أن يدفعوا شيئا، فقد كان مطلوبا منهم فقط أن يحافظوا على الهدوء ، وأن يردعوا أو يطردوا أي مشاغب ، وكان مكرم ميّالا إلى المشاغبة والاستفزاز ، وكذلك بعض الأصدقاء المرافقين له في تلك الجولة ، ولم أكن أشاركهم في الاستفزازات ولا كنت راضيا عن تصرفاتهم ، لكنهم يعرفون جيدا أنه في حالة اشتباكهم مع بعض الرواد ، فلا أستطيع إلا الاشتراك معهم ، وربما كان هذا من حوافز الرغبة في الغزل والتحرش والاستفزاز ، خصوصا لدى ابن عمي مكرم الذي ربطتني به فضلا على صلة القربى والجوار طفولة مشتركة في المسقاة ، فهو في عمر مثل عمري تماما ، لكنه أطول مني قليلا ، ومن حسن الحظ أن جولتنا مرت بسلام .

ركبت وراء مكرم الدراجة النارية واتجهنا إلى البيت ، وفي الطريق مررنا بمحطة بنزين فوقفنا فيها لتزويد الدراجة بالوقود .
صادفنا فتاة تقف إلى جانب سيارتها ، فراح مكرم يغازلها بالعبرية ، وهذا أمر عادي ومألوف ، ولم تنزعج الفتاة ربما لأنها لم تعرف أن الذي يغازلها عربي ، فهو ذو بشرة بيضاء ويتكلم العبرية بطلاقة ، لكن عامل المحطة سمعنا نتحاور بالعربية ، فعرف هويتنا ، وعندئذ بدت على وحهه علامات الضيق وراح يستفزنا ، ويبدوا أن زملاءه الثلاثة سمعوا صوته فجاؤوا إليه .

كان أحدهم مغربيا ، والثاني يمنيا ، والثالث أشكنازيا، وبمجرد أن وصلوا راح العامل المغربي يصرخ ، فسأله الأشكنازي عن سبب صراخه ، فقال : هؤلاء العرب لا يريدون أن يدفعوا ثمن البنزين !

لم تكن التهمة التي لفقها لنا أكثر استفزازا لزملائه من كلمة (عرب) ! كانت هذه الكلمة وحدها كافية لتصعيد الموقف وتحريض الآخرين علينا .
قلت لهم بصوت هادئ – و غالبا ما يكون صوتي هادئا :
صاحبكم مخطئ وإن كنتم تريدون المشاجرة فستخسرون! لم أكد أتم عبارتي حتى هجموا علينا وهم يصيحون (عربي ، عربي) فانضم إليهم عدد من هواة ضرب العرب الموجودين في المحطة .

قلت لمكرم : يبدو أنه لا بد مما ليس منه بد، لكن ليكن ضربنا خفيفا، تقدم مني اليمني والأشكنازي فضربتهما بكفي ورجلي ، ولمحت أن المغربي قد ضرب ابن عمي برأسه ، وهم بأن يضربه ثانية ، فقفزت إليه وضربته لكمة أسقطته على الأرض دون حراك ، وعندئذ شعرنا بخطورة الموقف فركب مكرم الدراجة بينما ظللت أناوش الآخرين حتى لا يتمكنوا من أخذ رقم الدراجة، وبعد أن ابتعد مكرم عن المحطة تبعته بسرعة ولذنا بالفرار .

في اليوم التالي نشرت الصحف : (مجهولان يعتديان على عامل محطة وقود يدعى فكتور ، حاول مساعدة سيدة كانت تقف في المحطة وقد تم نقل عامل المحطة إلى المستشفى واتضح أنه أصيب بارتجاج في المخ وحالته صعبة ).

قال مكرم بعد قراءة الخبر : يبدو أنهم عرفونا ، وأنت مكروه في إسرائيل،وسيغتنم رجال الشرطة هذه الفرصة لزجك في السجن ! ودون نقاش ، قررنا أن نهرب إلى غزة ، ونفذنا قرارنا في 29/03/1964 .

يتبع

مقالات ذات صلة

إغلاق