اخبار الفن

بسام كوسا.. صوت السوريين في زمن الألم

عندما يمرُّ وطنٌ بأزماته، يصبح الفنّ مرآةً تعكس هموم الناس، صرخاتهم، أحلامهم المحطّمة، ومآسيهم التي لا تُحكى بالكلمات. في الدراما السورية، لم يكن بسام كوسا مجرّد ممثل يؤدي أدوارًا عابرة، بل كان حالةً فريدة من التقمص العاطفي الذي يلمس قلب المشاهد، وينقل أوجاع السوريين بحرفيّة نادرة. كل شخصية قدّمها كانت صورةً من الواقع، تنبض بالحقيقة، وتعكس وجوهًا متعدّدة من معاناة الناس في زمنٍ فقد فيه الكثيرون القدرة على البوح.

“البطل”.. حين يصبح الفن صوتًا للعدالة

وسط الحكايات المكرّرة، جاء مسلسل البطل ليكون انعكاسًا حيًّا للواقع السوري، حيث تتجلى العدالة كحلمٍ بعيد المنال، ويصبح الإنسان العادي تائهًا بين طوفان الأزمات. بسام كوسا، الذي قدّم شخصية الرجل الذي يحاول أن يكون عادلًا بين الناس في زمنٍ يسوده الظلم، لم يكن يؤدّي دورًا فحسب، بل كان يجسّد حالةً يعيشها كل مواطن سوري في قلب المأساة. في عينيه، كان المشاهد يرى القلق، وفي صوته، كان يسمع نبض الغضب، وفي وقوفه أمام الظلم، كان يرى ذلك البطل الذي حلم به الجميع، لكنه لم يأتِ.

“البطل” لم يكن شخصية خيالية، بل كان كل رجلٍ سوريٍّ يحمل همّ الناس، يحاول أن يكون منصفًا رغم قسوة الحياة، ويسعى لأن يبقى إنسانًا وسط عالمٍ يتفكّك أمامه. أداء بسام كوسا في هذا الدور لم يكن تمثيلًا، بل كان انعكاسًا لوجع الناس، للقلوب المثقلة بالخسارات، وللنفوس التي أتعبها الانتظار الطويل للحلول التي لا تأتي.

الفنان الذي لا يمثل.. بل يعيش الدور

ليست الموهبة وحدها ما جعلت بسام كوسا يفرض نفسه كأحد أعمدة الدراما السورية، بل قدرته النادرة على جعل كل شخصية يؤدّيها حقيقية إلى حدّ الألم. هو ليس الممثل الذي يكرّر نفسه أو يلعب أدوارًا نمطية، بل يتقمّص كل شخصية كما لو كانت قدره الشخصي. في أدائه، لا ترى أثر التصنّع أو التكلف، بل تشعر بأنك أمام إنسان حقيقي، يعيش الألم ذاته الذي يعيشه المشاهد.

حين قدّم أدوار الأب الذي فقد ابنه، لم يكن مجرد حزنٍ تمثيلي، بل كان وجعًا عميقًا ينعكس في نظراته، في ارتعاش صوته، في تلك اللحظات التي يقف فيها صامتًا، وكأن الكلمات خانته أمام الفقدان. وحين جسّد شخصية الرجل الذي يعيش الصراع بين المبادئ والمصالح، لم يكن يلقي حوارًا مكتوبًا، بل كان يترك المشاهد في حالة من الحيرة، كأنه يشهد صراعًا داخليًا حقيقيًا يمزّق الروح.

حين يصبح التمثيل رسالة

في أدواره، لم يكن بسام كوسا يبحث عن النجاح الشخصي، بل كان يقدّم رسالة، وكان صوته هو صوت أولئك الذين لا يملكون القدرة على الكلام. في مشاهد الغضب، كان يعبّر عن وجع الناس، في لحظات الصمت، كان يقول كل ما لا تستطيع الكلمات قوله، وفي تجسيده لأدوار الشخصيات المنكسرة، كان يُظهر الوجه الحقيقي للمعاناة السورية.

هذا الالتزام بالفن كرسالة جعله مختلفًا عن كثيرٍ من الممثلين، فهو لا يقبل بالأدوار التي لا تحمل مضمونًا، ولا يشارك في أعمالٍ لا تضيف شيئًا للواقع. لهذا، كل دور قدّمه كان بمثابة شهادة حقيقية على ما يعيشه السوريون، وليس مجرّد حكاية درامية تُروى للترفيه.

التفاصيل تصنع الفرق

الفرق بين ممثلٍ عادي وبسام كوسا، هو أن الأول قد يؤدّي دوره بإتقان، لكن الأخير يمنح الشخصية روحًا. لا يعتمد على الحوار وحده، بل يستخدم لغة الجسد، تعابير الوجه، النظرات، وحتى لحظات الصمت الطويلة ليجعل المشهد أكثر تأثيرًا من أي كلام. يمكن لنظرة واحدة منه أن تنقل إحساسًا أعمق من صفحاتٍ من الحوار، ويمكن لاهتزازةٍ في صوته أن تجعل المشاهد يشعر بكل أوجاع الشخصية دون الحاجة إلى كلمات كثيرة.

هذا الاهتمام بالتفاصيل جعله قادرًا على خلق شخصيات لا تُنسى، شخصيات تصبح جزءًا من ذاكرة المشاهد، لأنه لم يكن يقدّم أداءً عابرًا، بل كان يترك أثرًا يبقى طويلًا بعد انتهاء العمل.

بسام كوسا.. فنانٌ بحجم وطن

في ظل الظروف الصعبة التي تمرّ بها سوريا، كانت الدراما دائمًا وسيلةً لتوثيق الألم، لنقل الحقيقة، ولتقديم الفنّ كصوتٍ للمقهورين. بسام كوسا لم يكن يومًا ممثلًا يبحث عن الأضواء، بل كان فنانًا حقيقيًا أدرك أن التمثيل ليس مجرّد مهنة، بل مسؤولية.

سيظل اسمه جزءًا من تاريخ الدراما السورية، ليس فقط لأنه قدّم أدوارًا رائعة، بل لأنه استطاع أن يكون صوت السوريين في أصعب الأوقات، وأن يجعل من الفن مرآةً صادقة تعكس الحقيقة دون تزييف. هو الجوكر الذي تألّق في كل الأدوار، لكنه كان في كل مرة يحمل رسالة، ويجعل من شخصياته صورةً من الواقع الذي نعيشه جميعًا.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق