مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (7) الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (8)
* الحيز العام لنا أم لغيرنا؟ قراءة في المساحة الرمزية والمكانية

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد
تُعدّ المساحة العامة، سواء كانت ماديةً أو رمزية، أحدى الميادين التي تتجلى فيها هوية الشعوب وصراعها على إثبات ذاتها وحضورها، فهي ليست مجرد شوارع وساحات ومؤسسات، بل هي مرآة لروح المجتمع وانعكاس لثقافته ومبادئه، والسؤال الذي يفرض نفسه في واقعنا في أرض الرباط: هل الحيز العام لنا أم لغيرنا؟
* الحيز العام بين التمكين والتهميش
الواقع يشير إلى أن السيطرة على الحيز العام ليست مجرد مسألة تنظيمية، بل هي شكل من أشكال القوة والنفوذ، في سياقنا نجد أن هناك سعياً مستمراً لفرض رموز معينة وإقصاء أخرى، حيث يُعاد تشكيل الفضاءات بما يتناسب مع رؤى تُهمّش الوجود الإسلامي والعربي، سواء عبر الأسماء التي تُطلق على الشوارع والأحياء، أو عبر إزالة المعالم التاريخية والدينية، أو حتى من خلال فرض سردية ثقافية تُحاول تقويض هوية المجتمع الأصلية.
إن كل لوحة شارع تُغيَّر، وكل مسجد يُهدم أو يُحاصر بقيود قانونية، وكل احتفال ديني يُمنع، هو محاولة لسحب المساحة الرمزية من بين أيدينا وإحلال رموز جديدة مكانها، هذه ليست مجرد سياسات إدارية، بل جزء من استراتيجية لفرض سردية واحدة تُقصي كل ما يعارضها.
* المساحة الرمزية: صراع الرواية والهوية
المساحات العامة ليست فقط مادية، بل هي أيضاً مساحات رمزية تعكس ما يُراد أن يكون في وعي الناس، عندما تُغيَّب اللغة العربية عن اليافطات الرسمية، وتُسنّ قوانين لهذا الغرض، وعندما يحاولون حظر الأذان أو تحجيم صوته، وعندما يُهمّش التراث الإسلامي في المؤسسات الثقافية والتعليمية، فإن ذلك يعني أن المساحة الرمزية تُسحب من تحت أقدامنا شيئًا فشيئًا.
لكن هذه المساحة ليست مجرد ميدان يُمكن انتزاعه بسهولة؛ بل هي جزء من الهوية التي تتجذر في النفوس، ولهذا فإن معركة الحيز العام ليست معركة صراع على الأرض فقط، بل هي معركة وعي وثقافة وإرادة.
إعادة بناء الحضور في الحيز العام
إن استعادة الحيز العام ليست مهمة مستحيلة، لكنها تتطلب وعياً وإصراراً وتخطيطاً، ويمكن تحقيق ذلك عبر:
1- تعزيز الهوية الإسلامية والعربية في المساحات العامة من خلال الحفاظ على المساجد والمدارس والمراكز الثقافية، وتكثيف النشاطات الاجتماعية التي تُكرّس وجودنا.
2- إحياء الرموز التاريخية عبر استعادة الأسماء العربية والإسلامية في الحيز العام وتوثيق معالمه في السردية الثقافية.
3- التمسك بالحقوق اللغوية والثقافية من خلال فرض وجود اللغة العربية في اللافتات والتعليم والإعلام، ورفض أي محاولة لتهميشها.
4- التفاعل مع الحيز العام بفعالية، فلا يكفي أن نكون موجودين، بل يجب أن نكون فاعلين، عبر المشاركة في المؤسسات والمجالس والمبادرات التي تُشكّل هذا الفضاء.
5- إجتثاث ظاهرة العنف أو على الأقل تحجيمها إلى أصغر حيّز حتى نلتفت إلى قضايانا المصيرية، فانشغل المجتمع بهذه الظاهرة الدخيلة يكسر شوكتنا ويُضعِف هيبتنا وقوّتنا.
الحيز العام والمسؤولية الفردية والجماعية
إن مسؤولية الحفاظ على الحيز العام ليست مقتصرة على المؤسسات أو النُّخب، بل هي واجب جماعي يبدأ من الأفراد ويمتد إلى المجتمع كله، كل فرد قادر على أن يكون جزءًا من هذه المعركة عبر لغته، ولباسه، وممارساته اليومية التي تُعزز وجوده الثقافي والحضاري، إنّ الحفاظ على الهوية لا يكون فقط في المواقف الكبرى، بل أيضاً في التفاصيل الصغيرة التي تتراكم لتشكل واقعًا صلبًا لا يمكن تجاهله، فحينما يتمسك الناس بلغتهم في الشارع والأسواق، وحينما يُمارسون عقيدتهم وثقافتهم بوعي واعتزاز، فإنهم يخلقون جداراً ثقافياً يصعب اختراقه.
أما الرسالة الختامية!
إن الحيز العام ليس مساحة محايدة، بل هو ميدان صراع يُحدد من هو الفاعل الحقيقي في الأرض، وحينما نُهمَّش فيه، فإننا لا نخسر فقط مساحة جغرافية، بل نخسر حضورنا وروايتنا ومعالم هويتنا، لذا فإن معركة إثبات الوجود في الحيز العام ليست خيارًا، بل هي واجب لا بد أن يُخاض بوعي وثبات. ولكم تحياتي وسلامي
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( الاندماج أم الذوبان؟ إشكالية التكيف مع المجتمع المحيط )
* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، جمعة، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1873)
16. شعبان . 1446هـ
السبت . 15.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
رؤية
هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
– السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
*
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* الاندماج أم الذوبان؟ إشكالية التكيُّف مع المجتمع المحيط
في خضم العيش ضمن مجتمعات متنوعة الثقافات والهويات، يواجه الإنسان تحديًا جوهريًا في كيفية التكيف مع محيطه دون أن يفقد خصوصيته الثقافية والدينيةّ، وهذا التحدي يتمحور حول سؤال محوري: هل المطلوب هو الاندماج أم الذوبان؟ وما الفارق بينهما؟
1- مفهوم الاندماج والذوبان
الاندماج هو عملية تفاعل إيجابي مع المجتمع المحيط، بحيث يحتفظ الفرد أو المجموعة بهويتهم وثقافتهم، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل معه في إطار الاحترام المتبادل، إنه أشبه بجِسر يمتد بين الفرد ومجتمعه، حيث يسير التواصل والتفاعل دون أن يمحو أي طرف شخصية الطرف الآخر.
أما الذوبان، فهو ذوبان الهوية الذاتية في نسيج المجتمع الأكبر، بحيث يفقد الفرد ملامح خصوصيته وينصهر تمامًا في ثقافة الغالبية، سواء كان ذلك عن وعي أو بدونه، في محاولة لاكتساب القبول الاجتماعي على حساب المبادئ والقيم الذاتية.
2- بين التكيف والتنازل
إن التكيف مع المجتمع المحيط لا يعني بالضرورة التنازل عن المبادئ أو التخلي عن المعتقدات، بل هو البحث عن نقاط التقاء تسمح للفرد بأن يكون عضوًا فعالًا في المجتمع، دون أن يُجبر على التنازل عن قيمه. يقول الله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6)، وهو مبدأ قرآني واضح يؤكد حق الاختلاف والتعايش السلمي دون المساس بالثوابت.
3- إشكالية الذوبان: الأسباب والمخاطر
الذوبان يحدث غالبًا عندما يشعر الفرد بضغط اجتماعي شديد، سواء بسبب الخوف من التمييز، أو السعي لنيل القبول، أو بسبب ضعف الوعي بالهوية الثقافية والدينية، وتكمن خطورته في:
• فقدان الهوية:
وذلك حين يصبح الشخص نسخة من الآخر، يذوب في العادات والممارسات دون تمحيص.
• التبعية الثقافية:
حيث يفقد المجتمع المُستضعف القدرة على تقديم رؤيته أو الدفاع عن قيمه، فيتحول إلى مجرد تابع لثقافة الغالب.
• ضياع الأجيال القادمة:
إذا نشأ الأبناء على نمط حياة منسلخ عن جذورهم، فإنهم يكبرون في حالة تيه بين هويتين، فلا ينتمون تمامًا لا إلى ثقافتهم الأصلية ولا إلى ثقافة المجتمع المحيط… هل مرّت عليكم قصّة الغراب الذي حول تقليد غيره؟ ابحثوا عنها ففيها عبرة
* الإسلام والتوازن في التكيف
الإسلام لا يدعو إلى الانغلاق ولا إلى الذوبان، بل إلى التوازن، حيث يمكن للمسلم أن يساهم في بناء المجتمع، ويشارك في مؤسساته، ويتفاعل مع محيطه، دون أن يذوب أو يتنازل عن مبادئه، وقد جسّد النبي محمد ﷺ هذا المفهوم حين تعامل مع مختلف الفئات في المدينة المنورة، فأسس مجتمعًا قائمًا على العدل والمساواة، مع احتفاظ كل جماعة بخصوصيتها الدينية والثقافية.
* كيف نحقق الاندماج الواعي؟
• تعزيز الهوية:
وذلك عبر التعليم والتربية، لتنشئة أجيال واعية بمبادئها دون تعصب أو انغلاق.
• بناء الجسور:
من خلال الحوار والتفاعل الاجتماعي البنّاء، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية.
• الاعتزاز بالذات:
ترسيخ مفهوم أن الاختلاف لا يعني التناقض، وأن التفاعل لا يعني التنازل.
* في الختام
الاندماج هو وعي وانفتاح، بينما الذوبان هو ضياع وانسلاخ، وبينهما خيط رفيع لا يُحسن السير عليه إلا من عرف كيف يحمل هويته في قلبه، دون أن يغلق عينيه عن الواقع، وكيف يفتح يديه للمجتمع دون أن يفرّط في قيمه، وكما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، فالتعارف لا يعني الذوبان، بل يعني الاندماج الفعّال الذي يحفظ لكل طرف خصوصيته، ويرسّخ قيم التعايش والاحترام.
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: ( حين يصبح البيت ضيقًا: التحديات الاقتصادية وأثرها على الشعور بالانتماء)
* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
مقالة رقم: (1874)
17. شعبان . 1446هـ
الأحد . 16.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)