مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية #البائع_نديم الجزء الثالث والرابع ( النهاية )

سلّمت الفتاة على ربيع، وقالت له :أنا إسمي نرجس، ولقد كان أبي من كبار الصّاغة في دمشق ،لكنّه مات، وتركني وحيدة مع تلك الخادمة، ومنذ صغرى وأنا مغرمة بالألغاز، ولماّ سمعت عن براعتك في تفسير الأحلام ،أردت أن أجرّب فطنتك !!! لكن أولئك الأحمقان السّلطان والوزير جاءا إلي، وقد أساء كليهما بي الظنّ ،وبالطبع طردتهما بعد أن أكلا ما في الصّينية ،أمّا أنت فلقد فهمت أنّ ما فيها ليس للأكل ،بل هو لغز، ولقد علمت القصد منه، والآن أخبرني عن نفسك !!! ثم وضعت الطعام، فبدآ يأكلان، وهو يحكي لها ،وقال لها أنه نزل إلى السّوق صغيرا ،وأنّ الفقر هو الذي علّمه الفطنة والحيلة،و بمرور الوقت صار بارعا في البيع ،لأنّه بنظرة واحد يفهم المشتري الذي أمامه .لكن التّجار لا يدفعون له إلا ما يسدّ الرّمق رغم أنّهم بفضله يربحون الكثير .ثمّ أراد ربيع العودة للقصر ،وشكر لها ضيافتها ،إلا أنها طلبت منه البقاء قليلا فلقد راق لها حديثه ،وهي تشعر بالوحدة ، وأخذت السّاعات تمرّ ، وهما في حديث وأكل، حتى مضى من الليل أكثره ثمّ إستلقى إلى جانبها، ونام ،وفي الغد ألحّت عليه نرجس أن يبقى عندها يوما آخر، فوافق ،وكلّ مرّة تطلب منه البقاء ،حتى أمضى ثلاثة أيّام برفقتها،وفي صباح اليوم الرّابع ،ودّعها ،ورجع إلى القصر،بعد أن أوصته بكتمان أمرها مهما حصل له .
في تلك الأثناء كان الجميع في القصر قلقا لإختفاء ربيع ، لكن الوزير أبو محمّد وجد الفرصة مواتية للتّخلص منه، فأوغر صدر السّلطان عليه حتى ثارت شكوكه، فذلك الفتى يعلم كلّ أسرار المملكة،ويسمع كل ما يدور في مجلسه، فلما دخل عليه ربيع بعد ذلك الغياب ، تلقّاه بالغضب الشّديد، وسأله أن يعترف أين إختفى في هذه الأيّام الثّلاثة ، فادّعى زيارة أهله، فلم يصدّقه، فقال أنه كان في سفر، فكذّبه، وحاول النّديم تبرير غيابه بشتّى الوسائل لكن السّلطان كان مقتنعا بأنّه يخفي شيئا لا يريد أن يبوح به ،وفي الأخير اتهمه بالخيانة، والتعاون مع أهل الرّقة الثائرين عل حكمه ،وأمر برميه في السجن، ولما سأله الأمراء إن كان له دليل أجابهم :لا ولكن إن غاب ذلك الفتى عني لأنه وجد شيئا لا يجده في القصر والكل يعلم أني لا أعطيه من المال إلا أقلّه لكي يظلّ في خدمتي ،، ضحك أحدهم، ،وقال: ولماذا لم يغب من أجل امرأة ؟أ جاب السّلطان :القصر مليئ بالجواري ،وأصرّ على بقائه في السجن، حتى تحين محاكمته، ولم يجدِ ً ذكاءُ الفتى نفعا، ولا شفاعة الحاشية، وتوسّلاتها بالعفو عليه .
أمّا الوزير فكان يعرف أنّ ربيع كان عند الفتاة ، التي طردته من عندها ،وقبله طردت السلطان .وذلك الوزير ليس في.الشّام من هو أخبث منه ،ولا يفوته شيئ ممّا يحدث في القصر ،والآن سينتقم من تلك الفتاة، ويردّ لها الصّاع صاعين بالكيد لحبيبها الذي يكرهه.ولبث ربيع في سجنه شهراً أو يزيد، فقلقت الفتاة عليه، وكانت تنتظر عودته، ولما تأخر عنها فسّرت غيابه بالغدر، وحاولت نسيانه، ولكنّها لم تقدر ،فلقد أعجبها كثيرا ،وهو أوّل واحد تدخله عندها ، وكانت تتوقّع دائماً أن يعود إليها، وتشتهي أن ترى حتى طيف خياله، ولمّا عيل صبرها ،أرسلت خادمتها العجوز للقصر لتعلم أمره ،لكن لم تظفر بشيئ ،ولا أحد يعلم له خبرا .كان السّلطان ينتظر طوال كل تلك المدة إعتراف نديمه بالتهمة الموجهة إليه ،لكنه لم يفعل ، فأرسل إلى القاضي للحضور ،وبعد أن لاحظ الشّيخ ضعف حجّة الفتى للغياب عن القصر،وتمسّكه بالصّمت، ثبتت عليه تهمة خيانة السّلطان ،وحكم عليه بالإعدام .
ودار المنادي في الأسوق يصيح أنّ غدا هو موعد إعدام نديم السلطان في ساحة المدينة ،وليعلم الحاضر الغائب ،وسمعت الفتاة نرجس بالخبر، فاغتمّت نفسها ،وأيقنت أنّها مخطئة في حقّه،فلا شكّ أنّ أحدهم كاد له انتقاما منها ،ثمّ فكّرت قليلا ،وقالت :سنرى من يربح في النهاية ..

يتبع الحلقة 4 والأخيرة

وفي اليوم المحدّد أخرج الجنود ربيع من سجنه، وعلّقوا في صدره صحيفة فيها خطيئته، وطافوا به في الأزقة ،والشّوارع، وقد احتشد الناس ليروه، وفيهم الآسف على شبابه، والشّامت به، وأيضا المتفرّج الذي لا يبالي شيئاً، وكان الفتى يرى الانفعالات على الوجوه، ويسمع كلمات الرّثاء التي سرعان ما تختفي تحت وابل من الشّتائم التي يطلقها أعوان السلطان من غير أن ترفّ له عين ، وداروا به حتى وصلوا قرب منزل نرجس، فلمّا رفع رأسه رآها تنظر إليه، دامعة العينين، وقد عرفت صدقه ووفائه، ولمّا أصبح تحت شرفتها، رمته برمّانة، فوقعت على الأرض، وانفرطت حبّاتها ، فنظر إليها وابتسم، ثمّ مسحت دموعها بمنديل ،وشدّته في قبضتها ، فأومأ إليها برأسه، وكان القاضي يسير مع الوزير في مقدّمة الموكب ،فالتفت إليه ،وقال له :لا شكّ أن تلك الفتاة لها ثأر مع هذا الفتى لترمي عليه الرّمانة بتلك الطريقة المهينة!!! مشط الوزير لحيته، وقال له :ذلك ما تعتقده ،فلقد بعثت له رسالتين :الأولى بالرّمانة، والثّانية بالمنديل، وثأرها هو معي، وليس معه !!! هزّ القاضي رأسه، وقال للوزير :والله لقد خرفت يا أبا محمّد، فما هي إلا جارية صغيرة ،فمن أين سيأتيها كلّ ذلك الدّهاء ؟
ولمّا بلغ الموكب ساحة المدينة، كان في إنتظاره السلطان نفسه، ليشهد مع الوزير تنفيذ حكم الإعدام في ربيع، مضى الفتى بخطوات واثقة إلى المشنقة، رافع الرأس، من غير أن يبدي انفعالاً، ، فسأله السلطان إن كان يطلب العفو، فأجابه بالنفي ، فغضب منه، ولكنه تمالك نفسه، واقترب منه، بحيث لا يسمعهما أحد، ثم سأله: “أريد أن أعرف أين كنت خلال الثّلاثة أيام التي غبت فيها عن القصر، قبل أن آمر بقتلك،أنا متأكد أنك تخفي عني شيئا،ولا بدّ أن أعرفه، وعندئذ اعترف الفتى بالحقيقة، فتعجب السلطان ،وقال له ويحك ،تفعل بنفسك كلّ هذا لأجلها ؟ يا لك من شخص ،وفيّ ،ومخلص، ثم أعلن على الفور العفو عن النّديم، ففرح الناس بذلك فرحاً شديدا، ثمّ أركبه بجانبه في عربته ،ورجعا إلى القصر، وفي الطريق سأله السلطان لماذا قبلتك أنت بالذّات ،وطردتني من عندها ؟ أجابه :حاشا لمولاي أن يطرده أحد، لكن تلك الفتاة قصدتني أنا ،لما ألقت الوردة على الموكب ،وأرادت أن تختبر صدق فراستي .
ثم أخبره بأنّ ما في الصينية كان لغزا، حكّ السلطان رأسه ،وقال لا يوجد فيه إلا طعام وشراب ،فمن أتيت بتلك الحكاية يا فتى ؟ إبتسم ربيع ،وردّ : فأمّا الفخذ المشوي يا مولاي، فقد فصلت عظمه عن لحمه، لأقول لها :حتى ولو عذّبوني، وفصلوا لحمي عن عظمي، فلن أتكلم بشيء ،وأمّا كأس النبيذ فقد أفرغته وسط الصّينية ،لأقول لها أن تثق بي حتى ولو أهرقوا دمي !!! هتف السلطان : آه ،لآن فهمت ،والخبز والملح ،هما دليل أنك ستبقى وفيّا لها ، بارك الله فيك يا ربيع ،فإنّ حكايتك فيها عبرة ،فالمظاهر قد تخدعنا، ويجب التّريث في الحكم على .الأمور ،ثمّ سأله: لكن أخبرني، كيف بحت لي إذن بسرّك ؟ ولماذا الآن ؟ فأجابه بأنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن قذفته الفتاة بالرّمانة، فانفرطت حبّاتها على الأرض، وهي تعني أنّه لا بأس إن علم الناس بخلوتها معي ،ولا فائدة أن يبقى الأمر مكتوماً .
فازداد إعجاب السلطان بالنديم، وأدرك سرّ اعتذار الفتاة عن استقباله، فهو لم يكن مدعوّا لكن بالرّغم من ذلك ضيفته عندها، وأكرمته ،فزال غضبه عن الفتاة ثم استدعاها للقصر فجاءت في أبهى زينة ،وسلّمت فانبهر من جمالها وأدبها ،وقالت له: لقد جاء لداري شخص آخر ،وأكل طعامي، وهدّدني بالويل والثّبور لأنه أساء فهم مقصدي !!!صاح السلطان قولي  لي عليه ،وسترين ما أفعله به ،أجابته :هو الوزير أبو محمد ،والله يعلم أنّه لما بات ربيع عندي، كان حدّ الله بيني وبينه ،ومنذ اليوم الأوّل أحببنا بعضنا ،واتفقنا على الزّواج على سنة الله ورسوله ،في هذه الأثناء دخل عليهم الوزير ،ولما رأى الفتاة أمامه ،وهنت ركبتيه،وأيقن بالهلاك ،لكنه حاول أن يتصنّع البراءة، وأنكر معرفته بها. لكن ربيع قال له : إسمع ،منذ مجيئي إلى هنا وأنت تكرهني ،وزاد بغضك حين أدخلتني نرجس عندها ،وأطردتك ،فدبرّت لي المكائد عند مولاي حتى ترتاح منّي ،وتنتقم من تلك الفتاة البريئة ،لكن الله فضح أعمالك !!! فضرب الوزير جبينه بيده ،والتفت لنرجس ،وقال لها :كم كنت مغفّلا ،لقد فهمت معنى قبضتك التي أمسكت بالمنديل، فهي وعيد بالانتقام ،أمّا الرّمانة التي رميتها في الأرض، فلم أفهمها ،وهذا من سوء حظي، وإلا لكنت وجدت حلاّ لكي لا ينجو حبيبك اللعين .
تغيّر لون السّلطان من شدّة الغضب وقال للوزير: بسبب خبثك ،لم أستمع لنصائح الشيخ الذي جاءني في الحلم ،فظلمت ،واستبددت بالرّأي ،وسمعت كلام من يضحكني، وليس من يبكيني ،ثم ما كان منه إلاّ أن أمر باقتياد الوزير إلى المشنقة التي مازالت منصوبة في السّاحة .واجتمع النّاس مرّة أخرى، وبدأوا يسبّون الوزير الذين عانوا من لؤمه ،ولمّا رأوه يتدلّى من الحبل، تصايحوا من الفرح ،أمّا ربيع فقد عيّنه السّلطان وزيراً له مكان أبي محمّد، ثمّ زوّجه من نرجس ،وعمل لهما عرسا عظيما، وأقاما في القصر، فاجتمع الحبيبان ببعضهما ،بعد فراق طويل ،وسعدا باللقاء، وعاشا في هناء وسرور، وانتصر الحبّ على شرّ الوزير ولؤمه ،والحمد لله على كل شيئ …
…انتهت

عن قصص حكايا العالم الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق