مكتبة الأدب العربي و العالمي

الوعد الشرقي أليس عجباً ان صار الوعد الشرقي علماً على الوعود الكاذبة واسم الوعد الغربي علماً على الوعد الصادق

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: يقول لك الرجل: (الموعد صباحاً).. صباحاً؟! في أي ساعة من الصباح؟

في السادسة؟ في السابعة؟ في الثامنة؟ ..
إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها ..
(الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين (الوعد بعد العشاء) ..
أهذه مواعيد؟!!
هذه مهازل وسخريات لقوم لا عمل لهم ولا قيمة لأوقاتهم ولا مبالاة لهم بكرامتهم..
هذه مواعيدنا في ولائمنا وحفلاتنا وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.
دُعيت مرةً إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى من بعد الظهر..
فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوّين موجودين إلا واحداً، له عند صاحب الدار منزلة..
وتحدثنا، وحلَّت ساعة الغداء، وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يتشاغل بتافه الحديث …
حتى إذا اشتد بيَ الجوع قلت له: هل عَدَلْتَ عن الوليمة؟
فضحك ضحكة باردة، وخالها (أي: ظنها) نكتة..
فقلت: يا أخي، جاء في الحديث: أن “امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!!
فتغافل وتشاغل، ثم صرَّح فقال: حتى يجيء فلان ..
قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد أَفَنُعَاقَبُ نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنَّا كنا غير مُخْلِفين ؟!

والحفلات مثل الولائم؛ يُكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الساعة الخامسة..
وأعمالنا كلها على هذا النمط.
أما الخياطون والخطاطون والحذَّاؤون والبنَّاؤون وأرباب السيارات وعامة أصحاب الصناعات.. فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم لوعد..
الكذب دينٌ لهم والحلف عادة..
ولطالما لقيتُ منهم ولقوا مني..
وما خِطْتُ قميصاً ولا حُلَّة ولا صنعتُ حذاء ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوباً إلى مصبغة لِكَيِّه أو غسله أو تنظيفه، إلا كَوَوْا أعصابي بفعلهم، وشَوَيْتُهم بلساني..
وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحُطيئة أو جرير أو دُعْبل الخزاعي..
بل إنهم لَيَفْخَرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد والتلاعب بالناس ويعدونها مهارة وحِذْقاً.

فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونَعِد وعد الصدق ؟! ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازماً على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادراً على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره .. والخيَّاط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعاً، وتُمْحى من قاموسنا هذه الأكاذيب!
تقول لأجير الحلاق: أين مُعلّمك؟ فيقول: إنه هنا سيحضر بعد دقيقة.. ويكون نائماً في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين!!

ويقول لك الموظف: من فضلك لحظة واحدة.. فتصير لحظته ساعة!!
ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديداً صادقاً دقيقاً؟!

من كتاب (مع الناس)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق