على هامش معرض الكتاب الدولي الأخير في عمان التقيت بالدكتور فيصل درّاج وخلال حديث مطوّل حول الرواية الفلسطينيّة الحديثة أوصاني بقراءة رواية “ليتني كٌنتُ أعمى” للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا (الصادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع الأردنية، تقع في 158 صفحة من القطع المتوسط؛ صدرت له رواية “القادم من القيامة”، رواية “وارث الشواهد” وكذلك “الجزيرة والإخوان، من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة” و”إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق”)؛ قرأتها في حينه للمرّة الأولى، وفي 22 يناير شاركت مع الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين الكرمل 48 في أمسية تضامنيّة في البعنة الجليليّة مع الفنّان والمخرج محمد بكري، الذي يُلاحَق منذ 18 عامًا بسبب فيلمه “جنين جنين” (في حينه قام عدد من جنود الاحتلال وعائلاتهم برفع دعوى قذف وتشهير ضدّه زاعمين أنّه تجنّى عليهم في الفيلم الذي وثّق عدوان “السّور الواقي” في مخيّم جنين عام 2002 والجرائم التي ارتكبت أثناء الاجتياح ضد البشر والشجر والحجر) فقرأته ثانيةً فوجدته صديقًا لي كما قال الكاتب والشاعر أوليفر سميث “عندما أقرأ كتابًا للمرّة الأولى أشعر أنّي قد كسبتُ صديقًا جديدًا، وعندما أقرأه للمرّة الثانية أشعر أنّي ألتقي صديقًا قديماً” وجاءت القراءة مختلفة جدًا فتساءلت: هل هذا مرتبط بمقولة نظريّة التلقّي الألمانيّة “إنّ قراءة نصّ واحد في زمنين مختلفين من القارئ نفسه تؤدّي إلى قراءتين مختلفتين”؟
بدايةً؛ لوحة الغلاف “إيفان الرهيب وابنه” (وليس الرهب كما جاء في الغلاف الداخلي) للفنّان الروسي ايليا ريبين التي تصوّر حزن ولوعة إيفان الرهيب مُمسكًا بابنه جريحًا، جروحه خطيرة، ويُعتقد أن إيفان الرهيب نفسه هو من وجّه تلك الضربة القاتلة لابنه، اختيارًا موفقًا للرواية ورسالتها الإنسانيّة.
تشاء الأقدار ليلتقي لاجئان جريحان في سيّارة إسعاف؛ عليّ “خرّيج” الكتيبة الطلابيّة في بيروت الذي فقد زوجته في مجزرة صبرا وشاتيلا، كما وفقد بصره. وياسر “خرّيج” الانتفاضة الثانية من مخيّم جنين الذي فقد توأمه صلاح بفِعل رصاصة أثناء عودته من المدرسة وهو فقد ساقه!
يشعر علي بالغربة في لبنان، ويزيد اغترابًا بُعيد العودة المنقوصة والموؤدة إلى رام الله.
يصوّر الكاتب مشهدًا سرياليًا خروجًا من ردهات المستشفى الذي تتكدس فيه الجثث – عليّ الأعمى يقود ياسر مبتورَ الساق على كرسي متحرّك، علي يمشي على قدميه بتوجيه وإرشاد ياسر فيعلقان في شوارع رام الله المزدحمة بالسيارات فيُسبّون ويُشتمون ويُهاجَمون لعرقلة السير فيتحسّر علي هامسًا: “لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت، ما كنت بدأت”.
أسلوب الرواية مشوّق وسخريته السوداء جاءت موفّقة ولاذعة ويوجّه سهامه نحو مدّعين من زمن مضى كانوا يختبئون في الملاجئ ويتخفّون بالتنانير والمعاركُ مشتعلة، يدّعون أنهم كانوا في خطوط الجبهة الأماميّة ليعودوا كما كلّ الانتهازيّين ليجنوا الثمار على أكتاف الأبرياء، وفصائل اليوم تُساوم على شراء جُثّة شهيد تتباهى بها لقطف الثمار. ما راحت إلّا على الأبرياء السُذّج الأنقياء!، لتصل ذروتها حين يصرخ الجدّ بوجه لائميه لأنّه لا يصلّي وهذا حرام “لا حرام طالما قامت إسرائيل”.
يتناول ازدواجية المعايير وتسلّط العدوّ على الإعلام العالمي بوسائله المختلفة: “هوّن عليك، لم تعُد إسرائيل تخاف الصور، الصور التي كانوا يسرقونها من جيوب المشرّدين الذين يقتلونهم وقت التهجير والنكبة، يُفرجون عنها الآن، أما العالم فسيبكي عليك في اللوحة، لكن بعد فوات الأوان، لأنّه سيبكي عليك وسيُكرّم قاتلك” (ص12).
ينتقد الكاتب بحِرقة ظاهرة المنتفعين الذين يلهثون وراء مصالحهم الفرديّة ضاربين عرض الحائط المصلحة الوطنية، وهذا ما صدم علي منذ اللحظة الأولى حين الخروج من بيروت، وحين شارك مؤتمر مدريد المشئوم بصفته صحافيُا مرافقًا للوفد الفلسطيني “المُفاوض”: “لم أعتد على هذه الأحذية من قبل، أحسّ أن قدميّ تختنقان، أصابعهما تتداخل، تذكّر ذلك”، لكنّه ظلّ على ما هو عليه، بطهره ونقاوته؛ لا يريد المشاركة في مشروع إسكان الضباط و/أو مشروع إسكان للمقاتلين القدامى و/أو شراء أرض سيتم ترخيصها يمكن أن تنفع لبناء عمارة ، طابقها الأخير مطعمًا فاخرًا على “الروووف”، لا يريد الاستفادة من رقمه في الإعفاء الجمركيّ لشراء سيارة فاخرة بنصف السعر، لا يجد نفسه في سهرات “العائدين” في فندق بيسان في رام الله الجديدة، يمتعض من رفيقه الثورَجي العائد أبو الناجي “مغرم بالمشاوي في مطعم جديد لصديقه، نفى أنه شريكه، يحبّ السمك من بحر عكا” ممّا يجعله يتساءل بشكل استنكاري: هذا نصيبنا من بحر عكا! فيحدّق به “العائد”: “لكل زمان دولة ورجال، حاربنا ومن حقّنا الاسترخاء، نحن أولى” (ص50)، ومثلُه مثايل!
يصوّر بسخرية قاتلة المُفارقة بين حياة المدينة وعائديها من المرتزقة المنتفعين كما يراها السائق، “في المساء، عندما أعود للبلد وأرى الحواجز وقهر الناس والشهداء والجوع، كنت أحس حالي إني بعالمين ما بشبهوا بعض، قهر في النهار من غنى اللواء، وقهر في الليل من فقر الناس، لا يمكن تكون هيك الثورات، بير دم وبير ذهب” (ص152). السائق يمثّل الناس العاديّين من الشرفاء السُذّج فيقول: “بداية، أنا آسف على الطريقة اللي لاقيتكم بها، لكن والله كان من القهر عليكم، يا إخوان أنا من قرية جبل العالي، ما كمّلت تعليمي، انسجنت آخر الانتفاضة الأولى، كنت طالب بجامعة بير زيت، انحكمت سبع سنين، ما قدرت أكمل تعليم، الإخوان وفّروا لي شغل سائق لأحد “الألوية”، بتعرفوا احنا ما كنا نعرف الرتب، كنا نقول: مناضل وجاسوس، قبل هالوقت اللي زي الزفت، اشتغلت معه تقريباً سنتين، كل يوم أروّح مقهور، سيارة مرسيدس ومرافقين، مشوار على الغدا ومشوار على الجيم، روح جيب البنت من النادي، روح ابعث المدام للصالون، كانوا يطلبون الأكل من المطعم وما يوكلوه، أرميه اليوم الثاني بالزبالة”!!!
يُحاور الكاتب ويواجه الماضي النظيف المشرّف والحاضر المؤلم وضياع الثورة فيتساءل ياسر: “إنظر إلى علي، وأقول في نفسي: كيف ينام الأعمى، مسكين هذا الرجل، يُحارب ليحتفظ بالثورة، ونحن نحارب لاستعادتها”، يحمل عليّ في جعبته صورًا تمنّى أن لا يلتقطها لكونها موجعة ولمأساويّتها المفرطة، وفي مخيّلته صورًا تمنّى التقاطها وما زالت تُلاحقه مًعاتبة ومُوبّخة على تهرّبه منها؛ فهو عايش أحداثَ دخول الإسرائيليين إلى بيروت لطرد المُقاومة منها عام 1982، معارك البطولة والصمود والتصدّي هناك، مجزرة صبرا وشاتيلا وقتل زوجته، الخروج من بيروت، مؤتمر “السلام” في مدريد وهديّة تلقّاها من إسرائيلي هناك وتبيّن لاحقًا أنّها فيلم بورنو يزيد من تعرّينا، العودة المبتورة إلى الضفة الغربيّة ومهزلة أوسلو ونتاجها من هبوط وفساد وتنازل عن الثوابت، السلام الصُوري الموهوم المزيّف، المفاوضات العبثيّة، موت حلم العودة وبيع فلسطين بأبخس الأسعار في سوق النخاسة.
يصوّر وحشيّة العدو وممارساته، قتل صلاح الطفل بدم بارد حيث لا يستوعب ياسر الأمر فيطلب ساعة الجنازة أن ينام جنبه تلك الليلة لأنّه يخاف العتمة – سلبوه الطفولة والمتعة بشمّ رائحة قدماه، مقبرة الأرقام دون شاهد قبر، القتل والدمار الشامل الذي طال مخيّم جنين وأهله، الحواجز وطرق الأبرتهايد الالتفافيّة، التعذيب و”الشبح” في السجن الذي يضطرّك أن تحوّل جسدك إلى احتمال قسري للحياة لتقهر سجّانك، فصار الفلسطيني يخجل إن فرح ويقنط إن حزن، ومهمّته في الحياة إعادة سير الراحلين!
النكبة حاضرة وتطفو على صفحات الرواية، نكبة مستمرّة وعكا، مرورًا بمجد الكروم صفورية ونبع القسطل، عين ماهل، زرعين، عين غزال وحيفا في الأفق، يحلم بالعودة القادمة لا محالة وينتظرها، “فالانتظار الأكيد أفضل من اللا وصول”.
وجدتُ الرواية حداثيّة بامتياز، جعل الصور تحكي حكاية المأساة بالصوت والصورة ونفخ الروح فيها، الصورة حاضرة كلّ الوقت في المخيّلة المرئيّة واللا مرئيّة، علي رأى الصور التي في عقله وليست الصور التي أمامه، رغم مرور السنين “من بؤرة العدسة أسمع صراخ الطفلة التي نزعوها من بطن أمها الميّتة عندما قصفت إسرائيل شارع الجامعة العربيّة في بيروت عام 1982. أقف بين الجموع ورائحة الدم والجروح والدمار، النار والدخان الأسود والصراخ. ينتزعونها من الجثّة، يفرحون بمولودة وسط مئات الجثث، يتيمة جديدة…أحسّ أن الكاميرا تنفث الدخان، وأشمّ الرائحة نفسها”! (ص.16-7) وتبقى رائحة اللحم المحترق هي الرائحة التي سيشمّها كلما نظر إلى الصور! يتعذّب بسبب صور ناطقة التقطها: صورة “فستان أم الأمين الأزرق والأبيض.. مستلقية، تضع يديها على رأسها، الذي جاور رأس الأمين، تحت رأس الأمين يرقد محمود وقد ظهرت يده فقط، تحت يد الأم يظهر رأس يافا، وقد تغطّى الدم، يد الأم تدلّت خلف رؤوس الأطفال، كانت تحاول بيد حماية رأسها من الطعنة، وباليد الأخرى حماية الأطفال من الذبح، عيون الأطفال مفتوحة نحو الأفق، والدماء توحدها بغطاء يصرخ بالعري”. يا إلهي!!! كان فستانها نصيبها من الحياة والموت، بعد أن كانت تملك بيّارة في يافا، أصبح جلدها كفنها. صورة عائليّة مذبوحة. ليش يا رب؟!؟ ويتعذّب أيضًا بسبب صور تمنى أن يصوّرها؛ صورة المقاتلة زكية شموط هي ومولودتها التي ولدتها داخل العزل الانفرادي عام 1972، نادية والمولودة الجديدة في الزنزانة!!!
رأيت حكايتنا تحلّق نحو العالميّة، يؤنسن الشرفا الألم الفلسطيني والمعاناة المستمرّة هنا وهناك وهنا وفي كلّ مكان؛ يوظّف لوحة “مذبحة الأبرياء” للفنّان جويدو ريني التي رسمها عام 1611 المستوحاة من مذبحة أطفال بيت لحم من قبل هيرودس الأول، يوظّف ميرسولت (بطل رواية الغريب العبثيّة لألبير كامو) الذي أطلق الرصاص على “العربيّ” وأرداه قتيلًا، يوظّف الفنان روبنز ولوحته الشهيرة “رفع الصليب” التي تصوّر السيّد المسيح ملقى على الصليب وتقوم أيادي جلّاده برفعه مع الصليب والمسمار ينزف دمًا، يوظف همنجواي وروايته “الشيخ والبحر” في انتظار المجهول: موج الغرق أو فك الموت؟…والأرض اليباب لتوماس إليوت وخيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالميّة (ذكرّتني بكتاب أرض اليباب لصديقي الراحل المسرحيّ رياض مصاروة)…ولوحة الحساب الأخير ليماكل انجلو، وما زلنا ننتظر ذلك الحساب. بهذا نجح الكاتب بتصوير مأساتنا وعَولمتها وإيصال رسالة إنسانيّة قويّة بعيدًا عن الشعارات.
سلّط الضوء على تمثال الحصان الذي لم يأخذ حقّه وهو: “اللوحة الأطهر والأكثر صدقيّة عن الجحيم”، يصوّر الاجتياح وملحمة المخيّم، قام بتصميمه الفناّن الالماني توماس كبلبر؛ هيكله من قضبان حديديّة ترمز للبيوت التي هُدمت في المخيم، صُنِع شكله الخارجي من بقايا السيّارات التي قصفتها قوات الاحتلال وراح ضحيتها عشرات الشهداء، ومنها سيّارة إسعاف (الحصان على مدخل مخيّم جنين، يبلغ قطره 44 مترًا، ارتفاعه ثلاثة أمتار، طوله ستة أمتار، عرضه مترًا واحدًا).
الحبكة الروائيّة محكّمة، وكأنّي به مخرج سينمائي وشخصيّاته تشكي وتبكي وتُكلّمك، وتحكي روايتنا المهمّشة، لقد صنعوا تاريخ الله ونحن صنعنا تاريخ ألمنا، لا وراثة ولا استبدال في الله والألم.
أنهي بتساؤل ومناجاة ياسر: “كيف سيتم تعريف هذه المعركة بعيون أبطال الأساطير والملاحم والتراجيديات الكبرى، ماذا سيقول الله الأن! وماذا سيكون رأي موسى وسليمان والمسيح! كيف يكون موقف بروميثيوس وأوديب وسبارتاكوس وعطيل والمعرّي والمتنبي وشكسبير وجبران، وبماذا سينصحوننا! ماذا سيكون رأي علي بن أبي طالب، وعلي أبو طوق وأبو إياد وغسّان!” (ص. 140)!!!
حسن عبادي
(نُشرت المقالة في العددين 24/25، السنة السادسة، شتاء وربيع 2020، مجلّة شذى الكرمل، الإتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48)