الرئيسيةثقافه وفكر حر
الله ستر / المحامي جهادابوريا
والدتي تتعافى في قسم الكورونا في مستشفى الدكتور حمزة القائم على شاطئ البحر في حيفا، والذي اصبح اسمه بعد طرد وتهجير الدكتور حمزه وزملائه واهل حيفا الى لبنان “مستشفى رمبام”. في هذا المكان كان الدكتور حمزة وزملاؤه يعالجون اليهود كما كانوا يعالجون العرب، لكن ذلك لم يشفع لهم ولم يحمهم من الطرد والتهجير.
والدتي، والحمد لله، شهيتها مفتوحة و “نفسها مفتوحة” على الطعام، بعكس ما يذاع عن المصابين بفيروس الكورونا، لكنها لا تحب ولا تستطيب الطعام الذي يتم تحضيره في المستشفى. في الايام الاولى لم نكن نعرف ان بالامكان احضار الطعام الى المتعافين في قسم الكورونا، فقد بدا لنا هذا القسم كمكان خطير لا يمكن الوصول اليه، فكانت والدتي في حالة نفسية سيئة، لكن سرعان ما تبدلت حالتها.
كل يوم ( تقريبا ) احضر الى المستشفى مرتين لإحضار الطعام الذي توصي به والدتي، مرة في الصباح الباكر لاحضار طعام الإفطار، واخرى بعد الظهيرة لتقديم طعام الغذاء. دائما احاول الوصول من بيتي، في أعالي الكرمل، الى المستشفى الذي يلامس البحر، بأقسى سرعة ممكنة، لكي يبقى الطعام ساخنا.
اركن سيارتي على الشارع الذي يلامس ” الشاطئ الهادئ”، لا شك انه من اجمل شواطئ العالم، من هنا تستطيع ان ترى عكا ونهاريا ورأس الناقورة شمالا وجبال الجليل شرقا، المنظر الخلاب يشدني للجلوس على الصخر الذي يغتسل بمياه البحر، ولكني سرعان ما اتذكر هدف قدومي، فاستدير وجهي لأقابل حارس المستشفى عابسا كلحا يقف خارج بوابة المستشفى ويحمل بيديه الاثنتين رشاش من نوع “عوزي”، وكأنه يتأهب لمعركة حاسمة.
الدخول الى المستشفى يتم عبر نقطة حراسة، عادة لا يتم تفتيش الأغراض التي بحوزة القادمين، الا اذا اثار الامر شك وريبة عند الحارس. الاسم العبري واللهجة العبرية المتقنة كفيلة لوحدها لابعاد الشك والامتناع عن تفتيش الاغراض وعن الاسئلة “الزايدة” ، والتي تكون احيانا مستفزة. في فترة الكورونا تم اضافة فحص درجة الحرارة الى الداخلين الى المستشفى كشرط للسماح لهم للدخول، واذا اتضح ان درجة حرارتهم تعلو عن ٣٨ درجة فعليهم الدخول مباشرة الى قسم الطوارئ للفحص والعلاج والاطمئنان انه غير مصاب بفيروس الكورونا.
في نقطة الحراسة تم تثبيت شاشة، تشبه التلفاز، تقوم بتصوير كل الداخلين الى المستشفى، وتسجيل درجة حرارتهم على جبينهم عن بعد، الحارس ينظر الى الشاشة ويقرأ درجة حرارة الداخل ثم يسأل الزائر وجهته ويسمح له بالدخول دون تأخير.
عندما وصل دوري نظرت والحارس الى الشاشة، كانت درجة حرارتي ٣٦.٧ ، الامر الذي لا يستوجب تأخيري. سألني الحارس بهدوء ولطف وجهتي، فاجبته باحترام وهدوء ان وجهتي قسم الكورونا، فجأة تبدل هدوءه ولطفه وبدا منفعلا وعصبيا وطلب من المتواجدين خلفي الابتعاد عني، واخرج من جيبه مقياس حرارة وسلطه على جبيني دون ان يستأذن مني، ثم قال لي والخوف والرعب على وجهه، ان درجة حرارتي حسب مقياسه ١٤٠ درجة وان علي الدخول لقسم الطوارئ دون اي تأخر.
بدا الامر هزليا مضحكا وسألت الحارس كيف لي ان تكون درجة حرارتي ١٤٠ درجة مئوية ولم احترق ولم احرقه معي، وطلبت منه ان يكتفي بما اشارت له الشاشة او ان يعيد القياس مرة اخرى. نفض الحارس مقياس الحرارة واعاد القياس واخبرني ان درجة حراتي قد انخفضت الى ٤٤ درجة مئوية وطلب مني التنحي والوقوف جانبا حتى قدوم ممرضين مختصين لادخالي الى قسم الطوارئ.
قبل عدة ايام كانت شهية والدتي مفتوحة على وجبة ” شكشوكة”، حينها قمت باكرا لتحضير الوجبة وايصالها الى والدتي قبل ان تنتقل من غرفتها لغرفة غسل الكلى ( ديالايزا )، الذي تقوم به كل اسبوع ثلاث مرات. حزنت كثيرا عندما عرفت ان وجبة الافطار لم تصل لوالدتي قبل نقلها الى غرفة غسل الكلى، وخزنت والدتي عندما عرفت انه تم قذف الوجبةالى سلة المهملات.
خشيت ان يحل بالوجبة التي احملها بما حل بوجبة ” الشكشوكا”، وقررت الاستمرار بطريقي، ولكني سرعان ما سمعت الحارس في نقطة التفتيش يستنفر باقي الحراس ويستدعيهم للحضور وكأن امرا خطيرا جللا قد حل عليه. شعرت بالرعب والخوف لمنظر الحراس متوجهين صوبي مسرعين واياديهم على المسدس المثبت الى جانبهم، كانوا ينظرون الي وكأنني “مخربا” خطيرا.
توقفت وتوجهت بهدوء واحترام الى الحارس الاول الذي وصلني وشرحت له الموقف، وحاولت اخفاء الرعب الذي انتابني من مشهد الحراس يهرولون صوبي وهم في حالة تأهب شديد، فجأة تحولت في نظرهم من زائر الى مخرب خطير. خشيت ان اقوم، دونما قصد، باي حركة تثير ريبتهم فيطلقون النار علي.
توجه الحارس الى نقطة التفتيش وأخذ مقياس الحرارة وقام بقياس حراتي، وعندما اشار له المقياس، مرة اخرى، ان درجة حراتي ٤٤ درجة مئوية، طلب مني التوجه الى قسم الطوارئ، حينها طلبت منه ان يقيس درجة حرارته بنفس مقياس الحرارة ليتأكد اذا كان المقياس سليما، وهكذا فعل، فأشار له مقياس الحرارة ان درحة حرارته هو ٤٨ درجه مئوية، فقلت له إذن علينا الاثنين معا الى قسم الطوارئ، فقط حينها استوعب مدى حماقتهم، وسمح لي الاستمرار في طريقي.
قبل يومين اعدم حراس مستشفى تل هشومير بدم بارد مصطفى يونس في مدخل المستشفى، تذكرت ما حدث معي الاسبوع الماضي وقلت في نفسي: الله ستر.
**** الصورة قديمة من العام الماضي