مقالات

السُّهادُ وَالْأًرَقُ: أ. د. الطفي منصور

اِعْتَدْتُ مُنْذُ سَنَواتٍ طَويلَةٍ عِنْدَما يَمَلُّنِي الْفِراشُ أَوْ أَمَلُّهُ في الْهَزِيِعِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ أُغادِرَ غُرْفّةَ النَّوْمِ إلى مَكْتَبَتِي مُتَّجِهًا إلى قِسْمِ دَواوِينِ الشُّعَراءِ، لِأَنْقَعَ غُلَّتِي بِشِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ في وَصْفِ اللَّيْلِ ، عِنْدَما داهَمَهُ بِثِقَلِهِ وَطُولِهِ فَقالَ:
– فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ
بِأَمْراسِ كَتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
أَوْ قَوْلُهُ مُتَحَدِّيًا اللَّيْلَ:
– أَلا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلا انْجَلِ
بِصُبْحٍ وَما الْإصْباحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَهَمُّ الشَّاعِرِ التَّخَلُّصُ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيلِ إلى نَهارٍ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ.
وَأَكثَرُ ما يَشُدُّنِي في سُهادي قَصيدَةُ الْأَعْشَى الْأَكْبَرِ أَبي بَصِيرٍ في قَوْلِهِ:
– أَرِقْتُ وَما هَذا السُّهادُ الْمُؤَرِّقُ
وَما بِيَ مِنْ سُقْمٍ وَما بِيَ مَعْشَقً
– وَلَكِنْ أَراني لا أَزالُ بِحادِثٍ
أُغادِي بِما لَمْ يُمْسِ عِنْدِي وَأُطْرَقُ
– فَإنْ يُمْسِ عِنْدِي الشَّيْبُ وَالْهَمُّ وَالْعَشَى
فَقَدْ بِنَّ مِنِّي وَالسِّلامُ تُفَلَّقُ
حَقًًّاشَيْءٌ يُسَرِّي عَنِ النَّفْسِ عِنْدَما تَقْرَأُ أَخْبارَ هذا الشَّيْخِ وَقَدْ وَهَنَ جَسَدُهُ، وَأَصْبَحَ كَليلَ الْبَصَرِ، فَصَبَرَ عَلى نَوائِبِ الدَّهْرِ الَّتِي تَطْرُقُهُ صَباحَ مَساءَ، وَصَمَدَ أمامَها بِجَلَدٍ أَقْوَى مِنَ السِّلامِ وهِيَ الْحِجارّةُ الصَّلْبَةُ الَّتِي يُفَتِّتُها الدَّهْرُ.
شاعِرٌ لَهُ عَزيمَةٌ لَمْ يَقْوَ الدَّهْرُ عَلى طَيِّها بِوَسائِلِهِ. وَهِيَ الشَّيْبُ وَالْهَمُّ وَضَعْفُ الْبَصَرِ فَفارَقْنَهُ بِإصْرارِهِ عَلى الْحَياةِ، وَشَعَرَ بِدِماءِ الشَّبابِ تَسْرِي في عُروقِهِ.
وَمِنَ الشُّعَراءِ الَّذِينَ وَصَفُوا الْلَّيْلَ فَأَبْدَعُوا الْبُحْتُرِيُّ في قَصِيدَةٍ فيها قِصَّةٌ طَريفَةٌ عِنْدَما خَرَجَ لَهُ ذِئْبٌ ضارٍ ساغِبٌ.
وَلِيَتَّقِيَ الْبُحْتُرِيُّ هُجُومَ الذَِّئْبِ أَخَذَ يَقُدُّ لَهُ مِنْ زادِهِ حَتَّى نَفِدَ. لَكِنَّ الذِّئْبَ الَّذِي شِيمَتُهُ الْغَدْرُ هَمَّ بِافْتِراسِ الشّاعِرِ فَصَوَّبَ نَحْوَهُ سَهْمَهُ، فَانْغَرَسَ في قَلْبِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا. وَكانَ لا بُدَّ لِلشَّاعِرِ مِنْ طَعامٍ فَأَوْقَدَ نارًا وَشَوَى أجْزاءً مِنْ لَحْمِ الذِّئْبِ لِيَسُدَّ رَمَقَهُ. يَقُولُ:
– وَلَيْلٍ كَأَنَّ الصُّبْحَ في أُخْرَياتِهِ
حُشاشَةُ نَصْلٍ ضَمَّ إفْرِنْدَهُ غِمْدُ
– تَسَرْبَلْتُهُ وَالذَِئْبُ وَسْنانُ هاجِعٌ
بِعَيْنِ ابْنِ لَيْلٍ ما لَهُ بِالْكَرَى عَهْدُ
في الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِلْبُحْتُرِي تَشْبيهُ التَّمْثِيلِ . شَبَّهَ بُزُوغَ الْفَجْرِ بِسَيْفٍ صَقيلٍ لِمْ يُغْمَدْ كُلُّهُ في قِررابِهِ، وَبَقِيَ مِنْهُ قِسْمٌ ضَئيلٌ.
أَقْضِي حَتَّى الْمَوْهِنِ أَيْ اِنْتِصافِ اللََيْلِ ، أَكُونُ خَلالَها قدْ ضَعُفَ عِنْدِيِ السُّهادُ وَحَتّى الْأَرَقُ يَزولُ، وَأَشْعُرُ بِحاجَتِي إلى النَّوْمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ الْقَراءَةِ والِاطِّلاعِ عَلى مَواضِيعَ أَعْشَقُها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق