الرئيسيةمكتبة الأدب العربي و العالمي

حكايا من القرايا / عمر عبد الرحمن نمر

 

الله يعطيك العافية يا خالة أم صدقي، غربلت القمح بالغربال، يوم كامل وهي تهزّ القمح بالغربال، ويوم كامل آخر وهي تنقّيه من الشوائب والزوان…

ركّزت حجارة الموقدة، وتأكّدت من ثباتها، ثم وضعت القدر الكبير عليها، القدر المطلي بالشحار من برّا، لكنه من جوّا بظوي ظوي كالشمس…

دارت القمح على ماء القدر، وأوقدت الحطب في موقدتها، يا الله شو معدّلة يا خالتي أم صدقي، لما تِشُكْلي (إردانتش) أردانك، وتوزّي حطب، وتكبّس النار، وبمغرفة الخشب الطويلة تحرّكين قمح القدر…

كم كنت ذكية، وقادرة على التصرف، وإدارة الأزمة، عندما تمرّد أحد حجارة الموقدة، ومال (يبدو أنه من الحثّان الطريّ)، ومال قدر القمح نصف المسلوق… لم تهتزّ لك خاصرة يا حجّة، أحضرت خشبة كبيرة عدّلت بها موضع القدر، وأسندتيه، وساعدك حفيدك – الله يسعده – بجرّ الحجر الهامل، وإبداله بحجر محترم… وقويت النار من جديد…

وعندما استوى القمح وانسلق، وصار سليقة لذيذة، يؤكل وحده، أو يمكن أن يحلّى بالسكر، أحضرت قشاني (صحون) الدار كلها، وبدأت بانتشال السليقة وملء الصحون، ثم أحضرت أولاد الحارة جميعهم… ناولت كل واحد فيهم صحناً، وملعقةً وسكراً، وبعدما أكلوا، أرسلتيهم بالصحون العبقة بالسليقة إلى بيوتهم… ولما عادوا حملوا الصحون المليئة إلى أهل البلدة جميعها… وعندما وقع إبراهيم بصحنه وانكسرت القشنيّة، واندثرت السليقة على الأرض، ونثر الولد دموعه يبكي، ما أن علمت بذلك حتى توجّهت إلى مكان الحدث، وطيّبت خاطر الولد، ولملمت الزجاج المكسور، وكنّست القمح المسلوق، خوف أن يدعس الناس على نعمة الله، واستمر التوزيع، حتى لم يتبقّ في البلدة بيت واحد لم تصله الهدية… لكن ماذا بقي لك يا أم صدقي؟ شوية سليقة في قاع القدر، لا تكفي للتنشيف، وجرش البرغل… ولا تكفي لهدايا البرغل لأبنائك وبناتك المتزوجين والمتزوجات، ولا لأقاربك… قال لها ولد: لم يتبقّ لك ما يكفيك يا حجة… أجابته وهي تشير إلى نصف كيس من القمح، بركة… بركة… غدا سأسلق القمح المتبقّي في الكيس… وانظر إلى الأكياس الأخرى، إنها مونتي من الطحين، وبذار العام القادم… الله يرحمك يا خالتي أم صدقي…

هيك كانت الحياة، لا تأكل إلا بعد أن تطعم… ولا تسعد إلا بسعادة الآخرين… عاشوا وماتوا وهم يحبّون بعضهم بعضاً… وهم متعاونون في السرّاء والضرّاء…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق