الرئيسيةمكتبة الأدب العربي و العالمي

حكايا من القرايا “رحلة القواريط”

عمر عبد الرحمن نمر

في بداية القرن الفارط، أخذ الأتراك أبو الصابر للحرب، ولم يعد أبو الصابر من الحرب.
قاروطان خلّف أبو الصابر وأرملة… صابر ابن السنوات الثلاث، وأيوب كان على يديّ أمه عندما غاب والده… وأم الصابر الشابة الأرملة الجميلة ابنة اثنين وعشرين عاماً. عاشت الأسرة في فقر مدقع… كانت الأسرة فقيرة وأبو الصابر خيّال حصانها، فما بالكم وقد غاب… دقّ الفقر أطنابه في البيت… وعشعش…
في تلك الفترة، كانت الأرملة مقصد الزواج، يتوق الرجال للاقتران بها، وهي الجاهزة المجهّزة بصندوق عرسها، وثيابها ومصاغها… ومما زاد من الطلب على أم الصابر أنها كانت جميلة، لذا، تسابق إليها طالبو الزواج، من أقارب وغرباء، أقرباؤها يريدون لها (السترة) وإعالة قاروطيها، وهي ترفض فكرة الزواج الرفض كلّه… كانت تقول: أريد أن (أقعد) على القاروطين… أربيهما وأتعهدهما بعيداً عن الزوج الغريب… حاولوا إجبارها على الزواج… (شحطوها) من شعرها للقاء المأذون، لكنها رفضت، وثبتت على موقفها.
عطف عليها الناس، حرثوا لها أرضها وزرعوها، لتأمين لقمة الأسرة كسيرة الجناح، وحصدوا لها القمح، ودرسوه ولما أصبح (صليبة) على البيدر، مرّت دورية لهنود تابعين للإنكشارية، وحمّلوا القمح على البغال… ولم يتركوا للأيتام حبّة واحدة منه… عطف عليها الناس، ولمّوا لها مونتها من غلالهم…
بالمقت والمرارة والدموع والشقا… كبر القاروطان، وكبر معهما فقرهما، كان يضربانها شمالاً فتأتي يميناً… بلغا الثلاثين من العمر، وهما أعزبان، لا يستطيعان تكوين أسرة… هاجر أيوب ضارباً في الأرض، ووصل فنزويلا، وضاعت أخباره هناك… وماتت أم الصابر، ماتت تحمل فقرها وصبرها، ماتت وهي تحلم بالراحة وتغير الحال، ماتت ولم ترَ في حياتها يوماً أبيض… أما صابر فعطف عليه ابن عمّ له، وزوّجه ابنته، وأنجب منها ثلاثة ذكور وبنتاً واحدة… لكن الفقر ظلّ يطارده في نهاره ويومه… يعمل بالمياومة، إذا عمل أكل وأسرته، وإن تعطّل لمطر أو غيره جاعوا (جوعاته أكثر من شبعاته)… في موسم الحصاد اعتاد أن يذهب ويترزّق في سهل حوران… يحصد، ويجمع القش بالأجرة… حاول تطوير عمله، والبدء بمشروع زراعي، فاستأجر قطعة أرض في الغور، زرعها قمحاً… طلع القمح وصار طول (الزلام)… لكن كان سبله فارغاً من الحب… فلم يجْنِ إلا التبن والتعب والبعد عن أسرته… إنه الفقر لا يفارقه… بعد تجربة الغور زرع أرضه، لكن المَحْل أصابها، حيث (شلتنت) تلك السنة لقلة المطر… ويا حرام لم يجمع صابر بذاره الذي رماه في الأرض… وعندما وقف على زرعه الذي بلغ طوله شبراً، بدأ ينوح ويروّد:
تنسج ع الطبق تين موازي…….. والله يا فقر دخلت ميازي
العام للركبة، والسنة لبزازي…….. والموجهه بتغطي على العيونا
في السنة التالية، غرس زيتوناً، ثم توفاه الله… تاركاً قواريطه، وكأن حياة القواريط تتجدد… لكن الزيتون يتجذّر… ويعصر زيتاً تبريّاً مباركاً…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق