مقالات

في مثل هذا اليوم من عام 2008 رحل نزية خير

كتب الشاعر نمر السعدي

” رحلَ نزيه خير , عاشقُ الياسمين الحييُّ وغرّيدُ الكرمل وما زال ترجيعُ نشيد إنشادهِ يترددُّ في كياننا , رحلَ مستعجلاً وقبلَ أوان إزهار اللوز , قبل أن يعانق مدينته الضائعة ويمسح الثلج عن خدّها . قبل أن يكملَ نبوءة الريح التي تغنىّ بها طويلاً . كأنه وقصيدته على سفر الى ما وراء المطلق.

” لا زلتُ أذكرُ صوته الشجيَّ الممسوح بفضة الدمع وعبقه الحار والمشحون بعاطفة الصيف الغريب يتسربُّ الى قرار كياني الجريح في ذلك الصباح التموزي العذب الباهر ريحه والمسكون بالتجليّات .
لن أذكر الآن إطراءه لديوانيَّ الأولين وكلامه الحميم عنهما وهو الذي لم يجامل أحدا أبداً ولم يطرِ شاعراً في وجهه الاّ فيما ندر .
لن أذكر صدق وفائه الذي فاض من حديثه ذاك فهو أكبر من أن يذكر فكلنا نعرفه في طوايا نفوسنا ونقرُّ بسموِّ روح صاحبه .
بل سأذكرُ ندمي المتفتحِّ مثل زهرة النار , ندمي لأني تقاعست ربمّا بلا سبب عن تلبية دعوته عندما دعاني الى لقاء في برنامجه الأدبي الثقافي الأثير عندي “شرفة” ذلك البرنامج الذي كان يعدّه إعداداً راقياً ويقدّمه
في قناة 33 في التلفزيون . طلبت منه حينها بأدب وحبٍ ولطف جمِّ أن يُرجأ مشاركتي ولقائي به الى المستقبل الغير منظور . وكم هي خسارتي فادحة الآن .ماذا كان سيحدثُ لو كنت إستثمرت هذا اللقاء معه؟
لا أدري ما هو سبب تقاعسي عن هذه المشاركة آنذاك وكان أجدر بي أن أغتنم مثل هذه الفرصة التي ضيعتها كما ضيَّعت غيرها .لترسيخ قناعتي بما أقوم به .
أهو الحياء أم الخوف؟ أم شيءٌ آخر؟ وقتها فقط حين لم يعاتبني الشاعر الرقيق الناعم الكلام أتهمتُ نفسي بهما .
رغم مشاغلي الكثيرة أيام السبت لم أكن لأفوّت فرصة مشاهدته
والإستماع الى محاوراته الذكية الصريحة وأسئلته المتغلغلة في أعماق الوعي الثقافي السائد عندنا , كانت تشدني وتأسرني طريقته في مناقشة المواضيع , وعباراته الشفافة المنحوته من صخر المعرفة وكانت حساسيّته الشعرية الواضحة جليّاً في مكاشفاته الكثيرة تلك سيدة المشهد .
أذكر في أحد الحلقات مع الروائي سهيل كيوان دفاعه الجريء عن ديوانيَّ الأولين في وجه لصوص “دائرة الثقافة” .
أستطيع أن أقول الآن وبلا محاباة ورياء وتصنعٍّ بل بثقةٍ وفخرٍ يعانقان النجوم أن نزيه خير هو الذي علمّني الإحتفاء برائحة الطبيعة وبأنوثتها وبأسماء الورد أكثر في شعري , قاموسه الشعري قاموس جميل لعشق الأرض بأزهارها ومكانها وأبعادها ومسميّاتها المطلقة . وهو أيضا من أغراني بحشد مواصفات ومعانقات تاريخية في تناص رائع . كيف لا وهو أحد شعرائنا الكبار .
لا أكاد أصدقُّ حتى هذه اللحظة رحيل هذا الفارس العربي النبيل ولا أستطيع أن أتخيّلْ مشهدنا الشعري خالٍ من إطلالته العالية ,لا أستطيع تصوّر وجداننا الشعري الجمعي خال من حضور إبداعه . فهو ريحان وعبقٌ في الذاكرة . كان منفتح العقل والقلب والروح لم يكن أبدا ضيق السريرة والعلن كان أفقه مفتوحا لكل طائر غريب .
لم أسمع منه كلمة واحدة تدل على ملل أو إحراج أو ما شابه في كل أحاديثي الهاتفية معه كان يشعُّ بشاشة وطيباً ومرحاً حتى في أشدِّ فترات إنشغاله .كأننا كنا متعارفين منذ سنين طويلة أو كأننا أصدقاءٌ من جيل واحد .
أذكرُ الآن مقالاته ولغته التي فاضت حزنا ووفاءً وصدقاً إثر وفاة البعض من أصدقائه الشعراء العرب منهم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وعبد الله البردوني ,لم يهذبُّ لوعته أبداً , أذكر كيف كان يتفجرُّ نثره رثاءً قوياً وعاطفة صادقة ًأعظم بكثير من عاطفة كتبت مراثي المدن الأندلسية . كانت مقالاته تلك أيقونة في صدر مرحلة ذوت من سفر الوجود الشعري الإنساني , وكانت تقريباً وإختزالاً لذلك البعد المترامي في المسافة والهويّه والثقافة والإنتماء .
لم أمر بالدالية يوماً أو أنظر اليها وهي خبط العصا جغرافياً من هضاب طبعون الأ عشقتها لأجله أو تذكرته وسكنت إطمئناناً الى هذا القرب الجغرافي الروحي الشعريِّ الجماليِّ المشترك بيننا ,
لن أصرخ ذات يوم وأقول قولة أخيك الكبير بدر شاكر السيّاب
“قساة كلُّ من لا قيت” أو قولته الأخرى “كلُّ من أحببتُ غيركَ ما أحبوني ” ولكن سأقول رغم هذا البكاء الخفيِّ الذي يملأ غصن جسدي أنني لستُ بحاجةٍ الى دمع يهبُّ من فضاء الروح لأثبت لك حباً غامضا مجهولاً منحتكَ أيّاه , لم تزحزحني عنه قسوة الآخرين وزيفُ أشباه الشعراء . فإلى جنان الخلد والشعر والنبوغ يا أبا فادي أيها الكبير الذي عانق صوته الشجيُّ أعماق الروح منيّ ذات صيف جميل هادئ . الى جنة الله يا شاعرا لم يوارب يوما ولم يتلوّن ولم يجامل أحدا وكان وفاؤه عندي مثلاً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق