الرئيسيةبارعات العالم العربيمقالاتمنظمة همسة سماء

البحث الأكاديمي أهمية اللغة العربية للناطقين بغيرها: دراسة معرفية وثقافية

إعداد: د. فاطمة أبوواصل إغبارية

أهمية اللغة العربية للناطقين بغيرها: دراسة معرفية وثقافية

المقدمة:

تحتل اللغة موقعًا جوهريًا في حياة الإنسان، فهي ليست مجرد أداة للتواصل، بل وسيلة للتفكير وبنية أساسية لتشكيل الهوية الفردية والجماعية. اللغة العربية من أعرق اللغات الحية وأكثرها ثراءً من حيث البنية والمفردات والدلالات الثقافية. فهي لغة القرآن الكريم، ولسان التراث العربي–الإسلامي، كما أنّها من اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، ويتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص حول العالم.

تتجاوز أهمية العربية حدود الناطقين بها، لتشمل الناطقين بغيرها، الذين يجدون فيها وسيلة للانفتاح على ثقافة متجذّرة وحضارة ساهمت في بناء المعرفة الإنسانية. في عصر العولمة والانفتاح الثقافي، لم يعد تعلم اللغة العربية خيارًا ثانويًا، بل أصبح حاجة معرفية وأكاديمية وثقافية في مجالات البحث العلمي، الدبلوماسية، والتواصل بين الشعوب.

الإطار النظري

أولًا: اللغة كظاهرة إنسانية

تُعد اللغة نسقًا من الرموز والدلالات التي تُعبر عن الفكر وتنقل المعرفة وتُعيد إنتاج الثقافة. ويشير عالم اللغة إدوارد سابير (Sapir, 1921) إلى أنّ اللغة “ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي حامل للثقافة ومُشكّل لرؤية الإنسان للعالم”. وعليه، فإن تعلّم لغة جديدة يعني الانفتاح على منظومة فكرية وثقافية متكاملة، وليس اكتساب أداة للتخاطب فقط.

ويُجمع علماء اللغة والاجتماع على أن اللغة ليست مجرد أصوات، بل هي نسق من الرموز والدلالات التي تُعبر عن الفكر، وتنقل المعرفة، وتُعيد إنتاج الثقافة. ويُشير إدوارد سابير (Sapir, 1921) إلى أنّ اللغة “ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي حامل للثقافة ومُشكّل لرؤية الإنسان للعالم”. وعليه، فإن تعلّم لغة جديدة لا يعني فقط اكتساب أداة للتخاطب، بل الانفتاح على منظومة فكرية وثقافية متكا

ثانيًا: تعليم العربية للناطقين بغيرها

برز مصطلح TASOL (Teaching Arabic to Speakers of Other Languages) في الأدبيات التربوية الحديثة، ليشير إلى حقل معرفي يهتم بتدريس العربية للمتعلمين من خلفيات لغوية وثقافية مختلفة. وقد تطور هذا المجال منذ منتصف القرن العشرين، خصوصًا بعد أن أصبحت العربية إحدى اللغات المطلوبة في الجامعات الغربية ومراكز الأبحاث الدولية.

ثالثًا: مكانة اللغة العربية عالميًا

  • لغة رسمية دولية: اعتمدت الأمم المتحدة العربية لغة رسمية سادسة عام 1973.
  • الانتشار الجغرافي: يتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص، إضافة إلى ملايين المسلمين وغير المسلمين الذين يتعلمونها لأغراض دينية أو أكاديمية.
  • التراث العلمي والثقافي: كانت لغة العلم والمعرفة في العصور الوسطى، ومن خلالها انتقلت إنجازات العلماء المسلمين إلى أوروبا وأسهمت في النهضة.
  • التعليم والبحث: تتزايد اليوم الجامعات والمراكز الأكاديمية التي تدرّس العربية، باعتبارها لغة استراتيجية لفهم التحولات في الشرق الأوسط.

رابعًا: تعليم العربية في سياق التعددية اللغوية

يشير باحثو علم الاجتماع اللغوي إلى أنّ التعددية اللغوية ظاهرة إيجابية تعزز الهوية الكونية المشتركة، ومن هنا يُنظر إلى تعليم العربية للناطقين بغيرها باعتباره جزءًا من مشروع إنساني عالمي يقوم على الاعتراف بالتنوع الثقافي.

المحور الأول: العربية وعالمية التواصل

اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي مرآة تعكس الفكر ووعاء يحمل هوية الإنسان وذاكرة الشعوب. واللغة العربية على وجه الخصوص، تتجاوز كونها نظامًا صوتيًا أو نحويًا لتغدو كيانًا حضاريًا ووجدانيًا، يحمل في طياته أبعادًا معرفية وروحية تجعلها جديرة بأن تكون لغة عالمية.()

شهد التاريخ لحظات فارقة جعلت العربية لغة العلم والفكر والفلسفة. ففي بغداد وقرطبة ودمشق، كانت العربية وعاءً انتقلت عبره إنجازات علماء المسلمين إلى العالم، لتسهم في بناء النهضة الأوروبية. لم تكن مجرد لغة علم، بل لغة لقاء حضارات، حيث اجتمع العربي والفارسي والتركي والأندلسي على موائد الفكر والإبداع. إنّ تعلّم العربية اليوم يفتح أمام الناطقين بغيرها أبواب تلك الذاكرة المشتركة، ويمنحهم فرصة التواصل المباشر مع منابع فكرية أصيلة دون وسيط.()

اعتماد العربية كلغة رسمية في الأمم المتحدة عام 1973 يعكس بعدها العالمي ودورها في العلاقات الدولية. فهي لغة الدبلوماسية والسياسة حين تُناقش القضايا الكبرى، لكنها أيضًا لغة الروح التي يجتمع عليها ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. هذه الثنائية تمنحها قدرة فريدة على أن تكون في آنٍ واحد لغة السياسة العالمية، ولغة السماء الموحية بالسكينة.()

لم تعد العربية لغة محفوظة في المخطوطات وحدها، بل أصبحت جزءًا من المشهد الإعلامي والرقمي العالمي. الفضائيات العربية، والمنصات الإلكترونية، والمحتوى الرقمي المتزايد، جعلوا منها لغة حاضرة في كل بيت. والناطق بغيرها الذي يتقنها لا يكتفي بمتابعة الأخبار، بل يكتسب نافذة لفهم الرؤى من داخلها، بعيدًا عن الترجمة التي قد تُغيّب المعنى أو تُشوّه السياق.()

تعلّم العربية بالنسبة لغير الناطقين بها ليس مجرد تمرين لغوي، بل تجربة وجودية. كل كلمة تُفتح أمامهم كنافذة على عالم جديد: السلام ليست مجرد تحية عابرة، بل فلسفة حياة؛ والحلم ليس مجرد أمنية، بل امتداد لصبر ووعي جمعي. إنّ العربية لا تُعلَّم كقواعد جامدة، بل تُعاش كتجربة تمنح الإنسان مرآة يرى فيها الآخر… وربما يرى فيها ذاته بوضوح لم يعرفه من قبل.()

بهذا، تتجلّى العربية كأكثر من لغة قومية، بل كجسر حضاري، وأداة دبلوماسية، وصوت إعلامي، وتجربة إنسانية شاملة. إنّها لغة الماضي الذي أضاء الحضارة، ولغة الحاضر الذي يفتح أبواب الحوار، ولغة المستقبل الذي يعد بإنسانية أكثر تواصلًا وتنوّعًا.

المحور الثاني: العربية كهوية ثقافية ومعرفية للناطقين بغيرها

ليست اللغة مجرد أداة تُكتسب من الخارج، بل هي جزء يتغلغل في هوية المتعلم. الناطق بغير العربية حين يبدأ رحلته مع هذه اللغة، يجد نفسه في مواجهة ثقافة كاملة تعيد تشكيل وعيه. فالكلمة في العربية لا تؤدي معنى سطحيًا فقط، بل تحمل تاريخًا وتجربة إنسانية طويلة. من هنا يصبح تعلم العربية عملية إعادة صياغة للذات، حيث يكتسب المتعلم بعدًا جديدًا يضاف إلى هويته الأصلية.

تُعتبر العربية مدخلًا فعّالًا للاندماج في المجتمعات العربية والإسلامية. فالطالب الأجنبي الذي يتقن العربية لا يعود غريبًا عن البيئة، بل يصير قادرًا على مشاركة أهلها وجدانهم وعاداتهم وقيمهم. وهكذا، تتحول العربية من كونها وسيلة للتواصل إلى جسر للانتماء، يعبر من خلاله المتعلم نحو تفاعل حضاري حيّ. وهذا الاندماج لا يعني فقدان الهوية الأصلية، بل إثراؤها عبر التعدد والانفتاح.

العربية ليست لغة تواصل يومي فحسب، بل هي لغة نصوص مقدسة وفكر إنساني عميق. إنّ تمكّن الناطق بغيرها من العربية يفتح أمامه أبواب القرآن الكريم والحديث النبوي والتراث الفلسفي والأدبي والعلمي للعرب والمسلمين. وهنا تتجلى قيمتها كـ وعاء معرفي يمكّن المتعلم من الوصول إلى منابع فكرية أصيلة، بعيدًا عن قيود الترجمة التي قد تُغيّب المعنى أو تُسطّح الفكرة.

حين يتعلم الناطق بغيرها العربية، فهو لا يضيف لغة جديدة إلى رصيده فحسب، بل يمدّ يده نحو الآخر في محاولة للفهم المشترك. إنّها لغة الجسور التي تقرّب المسافات وتعيد تشكيل صورة “الآخر” في الذهن. فبدل أن يبقى العربي بالنسبة له رمزًا غامضًا أو صورة إعلامية مشوّهة، يتحول إلى إنسان شريك في التجربة الإنسانية الكبرى. وهكذا تصبح العربية أداةً لتصحيح الصور النمطية، العربية مدخل فعّال للاندماج في المجتمعات العربية والإسلامية، فالطالب الأجنبي الذي يتقن العربية يصبح قادرًا على مشاركة أهلها وجدانهم وعاداتهم وقيمهم. اللغة العربية ليست مجرد لغة تواصل، بل أداة تصحيح الصور النمطية وبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل.

بهذا، لا يمكن النظر إلى العربية على أنّها لغة “أجنبية” يتعلمها الناطق بغيرها، بل هي تجربة عميقة تمسّ هويته وثقافته ومعرفته. إنّها لغة تُضيف، لا تُلغي؛ تُثري، لا تُقصي؛ وتمنح الفرد فرصة أن يرى العالم بعين جديدة، فيصبح أكثر وعيًا بذاته وأكثر قربًا من الآخر في آن واحد.

اللغة جزء يتغلغل في هوية المتعلم، فالناطق بغير العربية يجد نفسه في مواجهة ثقافة كاملة تعيد تشكيل وعيه. فالكلمة في العربية لا تؤدي معنى سطحيًا فقط، بل تحمل تاريخًا وتجربة إنسانية طويلة.

.المحور الثالث: العربية والتنمية المعرفية والبحث العلمي

لطالما كانت العربية لغة العلم والمعرفة في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، حيث أسهم العلماء العرب والمسلمون في مجالات الطب والفلك والرياضيات والفلسفة

ليوم، تُعد العربية لغة أساسية في مجالات البحث العلمي، خاصة في الدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية. فالتمكّن من العربية يتيح للباحثين الوصول إلى المصادر الأصلية للنصوص والمخطوطات دون الاعتماد على الترجمات، مما يضمن دقة أكبر وعمقًا معرفيًا في البحث العلميّ

تعلّم العربية يعزز أيضًا التفكير النقدي والتحليلي، إذ إن بنية اللغة العربية الغنية بالمفردات والمصطلحات الدقيقة تمكن المتعلم من التعبير عن أفكار معقدة بطريقة واضحة. هذا بدوره يساهم في تطوير مهارات البحث العلمي والقدرة على صياغة الأفكار بطريقة منهجية ومنظمة.

علاوة على ذلك، فإن العربية تتيح للناطقين بغيرها المشاركة في الحوارات الأكاديمية الدولية، ونشر البحوث العلمية في مجالات متعددة مثل الدراسات التاريخية والأدبية والدينية والاجتماعية. إنّها لغة تصل الباحث بالتراث العربي والإسلامي وتمنحه فرصة لإثراء المعرفة العالمية من خلال دمج الثقافات والأفكار

باختصار، يُمثل تعلم العربية للناطقين بغيرها جسرًا للبحث العلمي والتبادل المعرفي، حيث يجمع بين القدرة على التحليل النقدي والوصول إلى المصادر الأصلية والمساهمة الفعّالة في بناء المعرفة البشرية بشكل شامل ومتكامل.()

لطالما كانت العربية لغة العلم والمعرفة في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية. اليوم تُعد العربية لغة أساسية في البحث العلمي، خاصة في الدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، حيث تمكّن الباحث من الوصول إلى المصادر الأصلية للنصوص والمخطوطات دون الاعتماد على الترجمات.

تعلم العربية يعزز التفكير النقدي والتحليلي، إذ إن بنية اللغة الغنية تمكن المتعلم من التعبير عن أفكار معقدة بوضوح، مما يسهم في تطوير مهارات البحث العلمي والمنهجية الأكاديمية. كما تتيح العربية للناطقين بغيرها المشاركة في الحوارات الأكاديمية الدولية ونشر البحوث العلمية، ما يسهم في إثراء المعرفة العالمية.

المحور الرابع: العربية كأداة للتواصل بين الثقافات

اللغة العربية تُعتبر جسرًا للتواصل بين مختلف الثقافات، فهي تتيح للناطقين بغيرها فهمًا أعمق للثقافة العربية والإسلامية، وتعزز التفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب. هذا التواصل يساعد في بناء علاقات دولية قائمة على الحوار والتعاون، ويُسهم في تقليل الفجوات الثقافية بين الأمم.

المحور الخامس: اللغة العربية والتطور الرقمي والإعلامي

أصبحت العربية حاضرة بقوة في الفضاء الرقمي والإعلامي، من خلال الفضائيات العربية، المنصات الإلكترونية، والمحتوى الرقمي المتزايد. تعلم العربية للناطقين بغيرها يتيح لهم التفاعل المباشر مع هذه الوسائط، وفهم الأخبار، الأفكار، والمحتوى الثقافي والإعلامي بدون وسيط، مما يعزز من فرص الانفتاح الفكري والثقافي.

العربية والفضاء الرقمي

التحوّل الرقمي أتاح للعربية مساحة أكبر للتواجد عبر الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة. تعلم العربية يتيح للمتعلم الوصول إلى محتوى رقمي غني، والمشاركة في النقاشات الفكرية والعلمية، ويتيح له فهم الواقع العربي المعاصر بعمق.

2. تحديات العربية في عصر العولمة

العولمة فرضت ضغطًا على استخدام العربية كلغة أكاديمية وتقنية، مع هيمنة اللغات الأخرى مثل الإنجليزية. لكن هذه التحديات تُعد فرصة للناطق بغيرها ليصبح سفيرًا للغة العربية في المجالات العلمية والثقافية، ويشارك في تطوير محتوى رقمي ومعرفي عربي معاصر.

3. فرص الابتكار باللغة العربية

العربية، بما تمتلكه من مرونة لغوية وثراء مفرداتي، قادرة على التعبير عن مفاهيم جديدة، وخلق مصطلحات علمية حديثة، ما يجعلها لغة ملائمة للابتكار، والبحث، والتعليم في عصر المعرفة.

الخاتمة

العربية في عصر العولمة ليست مهددة، بل هي لغة حية قادرة على التكيف والتأثير عالميًا، وتمثل فرصة فريدة للناطق بغيرها ليصبح جزءًا من مشروع معرفي وثقافي عالمي، يربط بين الماضي العريق والحاضر الرقمي والمستقبل الواعد

اللغة العربية ليست مجرد أداة للتواصل، بل تجربة معرفية وثقافية، وجسر حضاري بين الشعوب. تعلم العربية للناطقين بغيرها يمنحهم فرصة الانفتاح على تراث غني، تنمية مهارات البحث والتحليل، والانخراط في حوارات ثقافية ومعرفية عالمية، مما يجعل العربية أداة قوية لبناء الإنسان والمجتمع.

المصادر والمراجع :

  1. د. مؤمن العنان، “المخرجات الثقافية في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها”، معهد اللسان، 2022.
  2. د. هند بنت عبداهلل الهاشمية، “اللغة العربية وأهمية تعليمها للناطقين بغيرها ومناهجها وأساليبها”، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، سلطنة عمان، 2014.
  3. د. مؤمن العنان، “دور الثقافة في تعلم اللغة العربية للناطقين بغيرها: العامل الثقافي في تعلم اللغة العربية للناطقين بغيرها”، مجلة ألوان، 2022.
  4. د. مؤمن العنان، “مفهوم الثقافة ومكانتها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها”، مجلة ألوان، 2022

 

إغلاق