اقلام حرة

في حضرة الذاكرة ” مسجد الايبكي” محمد جبر الريفي

علاقتي بالمسجد علاقة تاريخية ما زلت محافظا عليها كمكان يجسد الخصوصية الدينية لمجتمعنا الفلسطيني العربي المسلم وذلك رغم استرشادي بالفكر الاشتراكي العلمي الذي يرى في الفكر انعكاسا للواقع وقد يحضرني في ذلك الآن عبد الخالق محجوب أحد زعماء الحزب الشيوعي السوداني الذي كان من رواد المساجد حيث يلقي فيها بعض خطبه العمالية النقابية … بدأت علاقتي بالمسجد منذ طفولتي المبكرة وقد عمقت هذه العلاقة وجود بيتنا قريبا من مسجد الايبكي الواقع في حي التفاح بمدينة غزة هاشم وكان يفصله عن جدار المسجد بيت واحد فقط فخطوات المصلين في الفجر وهي تطرق الشارع الترابي كانت تتناهى إلى سمعي حتى وانا اتكوم تحت لحاف محشو بقطع من الملابس البالية .. خطوات الحاج عبد الله كانت مميزة عن غيرها لانها تحدث مترافقة مع خبط عكازه الأسود الطويل على الأرض اما مؤذن المسجد الحاج إسماعيل فقد كان صوته معروف لسكان الحي يميزونه عن غيره من الأصوات .. صوت رفيع ممدود يتناسب مع شكل قامته التي يغلب عليها الطول والنحافة في حين العم رضوان جارنا القريب اسمع صرير باب بيته الخشبي الكبير الذي يصدر صوتا مزعجا. .خطوات وأصوات كنت اسمعها في كل فجر توقظ احساسي بأن موعد الذهاب إلى المدرسة الابتدائية بات قريبا لكن برد الشتاء القارص وصوت الريح الذي يهز أسلاك أعمدة الكهرباء يجعلني أتريث في الخروج من تحت اللحاف الثقيل المملوء (بالشرايط ) حيث لم تكن في تلك الأيام أغطية نوم ناعمة كما هي موجودة الآن ..ذات يوم ما زلت أذكره بعد أكثر من خمسة وستين عاما ولم أكن حين ذلك قد بلغت السادسة من عمري دخلت فيه مسجد الايبكي متتبعا وراء أحد رجال الحي وكان شابا يافعا قويا وحينما بدأ بصلاة ركعتي السنة تحية للمسجد وقفت وراءه تماما وأخذت أفعل كما أراه يفعل وكان ذلك في الركعة الاولي وحين اتمها وبدأ في الركعة الثانية أحسست بيد قوية تسحبني من ورائه برفق وكان ذلك اول عهدي بأداء فريضة الصلاة .. تمر الأيام والشهور والإعوام وتتغير الخطوات والأصوات فيتوفى الحاج عبد الله ولم يعد أحد في الزقاق الضيق المؤدي للمسجد الذي يمر من أمام بيتنا يسمع خبط عكازه الأسود الطويل كما يتوفى بعده بسنوات المؤذن إسماعيل وينسى سكان البيوت المجاورة صوته الرفيع الممدود اما بيت العم رضوان الطيني الذي أصبح قديما مائلا للسقوط فقد أزيل بكامله وبنى ابنه الكبير الذي يعمل في السعودية مكانه بيتا بالاسمنت على بابه زر كهربائي وبذلك لم يعد يسمع الناس ذلك الصرير المزعج …أكثر الرجال كبار السن في الحي من رواد المسجد قد توفاهم الله واحدا وراء الآخر وقد توافدت نعوش جنازاتهم فيه . في حين الشاب القوي الذي وقفت وراءه في المسجد ذات يوم في طفولتي المبكرة فقد أدركته حيا بعد عودتي إلى ارض الوطن وذلك بعد غربة طالت ثلاثين عاما ..لقدأصبح رجلا هرما ضعيف القوى وحين أخبرته بتلك الواقعة ضحك ضحكة عالية اختلطت بنوبة سعال خفيفة جافة بان لي فمه وقد خلى من صف الأسنان البيضاء التي كانت في أعوام فترة الشباب تزينه …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق