ثقافه وفكر حرمكتبة الأدب العربي و العالمي
حكايا من القرايا / عمر عبد الرحمن نمر
حكايا من القرايا
بيوت البلدة القديمة متلاصقة، كل حيط ينقسم في داريْن، يمكنك التجول في القرية كلها على ظهر السقوف، من سقف إلى آخر، ومن بيت إلى آخر، ومن حي إلى آخر…
في الجهة الغربية من بيت (أبو رشيد)، قرب شباك العقد، شباك عريض كان يجلس عليه أبو الرشيد وأم الرشيد، يحتسيان الشاي المنعنع في ساحته، ويراقبان الحمام، وهو يهدل ويبرجم أثناء فطوره الصباحي…
بدأ أبو الرشيد يحفر بئر جمع للماء، فلم يعد بئره الذي ورثه عن أبيه يكفيه، ويكفي أسرته، وثلاث بقرات، وعنزة… ناهيك أن البئر داخل العقد، وإذا أرادوا نشل الماءـ تبتل أحياناً مصطبة العقد، يأتيه الماء من السطوح في مزاريب طينية تحتاج إلى ترميم سنوياً، قبل المطرة الأولى (مطرة المعدّلات) لا بد من حفر بئر جديد عميق، يسد رمق أهل البيت، وبدأ أبو الرشيد الحفر، وأم الرشيد تنتشل ما نتج عن الحفر من تراب، وبدأ البئر يزداد عمقاً، في البداية كان أبو الرشيد على سطح الأرض أو دونها بقليل، ولكنه الآن وبعد قطع الحوّر بدأ يسافر قليلاً قليلاً في عمق الأرض، وأصبح للصوت صدى، وهو يتردد في جنبات البئر الجديد…
كلما أوغل أبو الرشيد في العمق، يتجلى غناؤه بأسلوب أكثر رومانسية، وأم الرشيد تردد معه، ليكتمل المشهد الغنائي الفرايحي… إنه بئر جديد… سيبنون له قصعةً إسمنتيةً جديدةً، ويشترون له باباً حديدياً ردّاداً، فهو أسهل للفتح والغلق، وركوة جلد جديدةً، وحبلاً جديداً… ومزاريب جديدةً…
وصل أبو الرشيد الحفّار المتر الخامس في البئر، وأم الرشيد تنتشل ما يقطع زوجها من قطع الحِوّر والتراب، وبجانبها أم سليم… جارتها وصديقتها ومكمن سرها… علاوةً على أنها ابنة عمها اللزم… أم سليم تسلّي أم رشيد بالخراريف حيناً، وتساعدها برفع مخلفات الحفر حيناً آخر… وأبو الرشيد، يحفر، ويدخن، ويغني للحياة والأمل والماء… والماء سر الحياة…
في المتر الخامس في العمق، طبقة طرية، كأنها الهريسة… سهلة القطع… فجأة انفتحت كوّة صغيرة أمام (أبو الرشيد)… نافذة صغيرة، وربما طاقة الفرج… الله يفرجها علينا جميعاً… صاح أبو الرشيد من قحف رأسه: يا الله… رزقك يا رب العالمين… رزق العيال يا رب… ونادى… أم الرشيد… أم سليم… انزلن… وتع شفن… سمّين الله الرحمن الرحيم… رزقة والله العليم إنها كبيرة…
– عزا… عزا … مالك يمشحّر… كنّك انجنيت… قالت أم الرشيد… لمسك جنّ… تابعت… وربطت أم سليم أولاً في حبل البكرة، ودلّتها في البئر… ولحقتها أم الرشيد… يا للهول… طاقة… وبدؤوا بفتحها أكثر وأكثر… حتى استحالت باباً، وهم يمنون النفس بالذهب والمال، قالت أم الرشيد: سنبني غرفةً لجهاد، ونعلم أسامة في الجامعة، وضحك أبو رشيد: هذا مال يبني قصراً… غرفه!، وتابع ضحكه، وهو يمنّي النفس بأشياء يستطيع البوح بها، وأشياء يخاف الهمس -حتى الهمس – بها ( كثير من الرجال ما عليهم رباط…) ومال إلى أم سليم: ولا يهمك أختي، لك ما لنا، نزل الرجل من الباب… يااااه… انزلن… ياااااه… يا لهول المشاهدة… حفرة كبيرة ظنوها في البداية مليئة بالتبر السائل، ولما اقتربوا، وجسّوا، رأوا الماء… شرب كل واحد منهم غرفة… قالت أم الرشيد ” إنه ماء مُتَرْيَق… من الترياق” وقالت أم سليم: ماء مخزون منذ آلاف السنين مقدس… ومع أن أبا الرشيد حلم بكنز، وخاب أمله… إلا أنه فرح بالماء… تأمل فيه خيراً، فالماء رزق السماء للأرض…
واكتمل المشهد عندما فتحت أم سليمان باب بئرها لتنتشل الماء… فرأت الجنّ في البئر… رجلاً وامرأتيْن… وراحت تصيح… وتصيح… وولّت هاربة تاركة باب البئر مفتوحاً، انصدم زوجها وتفاجأ بصوتها المرعب: جنّ… جنّ… جنّ… لحقها زوجها، ونظر في البئر، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وسمّى، وسلم… فرد عليه أبو الرشيد السلام… من أنتم؟ سأل أبو سليمان؟ أنا أبو الرشيد قال… سأل أبو سليمان جارنا أبو الرشيد…؟ أجاب: نعم، ومعي أم الرشيد وأم سليم… قهقه الجميع… وعلموا أن البئر الجديد اخترق بئر( أبو سليمان)، ونفّد عليه… شربت أم سليمان من طاسة الرعبة، من ماء بئر الجنّ… وقُرِئَ عليها ما تيسّر… وأصبحت خريفية…الدور متلاصقة والحيطان متعانقة… وربما ماء بئر تمازج مع مياه أخرى متجاورة… فأصبح الماء مشتركاً…