مقالات

قرارات ترامب.. تجاوزٌ سياسيّ وفكريّ لمفهوم الانحياز محمّد جبر الريفي

لم تعد عبارة الانحياز الأمريكي المتداولة في وسائل الإعلام العربية تكفي لوصف طبيعة العلاقة الحالية بكل أشكالها الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، لأن قرارات الإدارة الأمريكية الحالية في عهد الرئيس الأمريكي المتصهين ترامب بخصوص أهم القضايا الجوهرية في القضية الفلسطينية وفي الصراع العربي الصهيوني، قد تجاوزت السعي إلى التوصل إلى عملية تسوية سياسية عادلة حسب قرارات الشرعية الدولية، بقدر ما أخذت طريقها في التطبيق على أرض الواقع بالفعل ضمن إطار عملية تصفية سياسية للمشروع الوطني الفلسطيني بأهم مكوناته السياسية والاجتماعية، كعمل تحدٍ للمشاعر الوطنية والقومية والإسلامية، وذلك خلافًا لما كان يصدر عن الإدارات الأمريكية المتعاقبة السابقة من قرارات تتوافق كلها مع مشروع حل الدولتين، الذي يحظى بإجماع دولي.

أوّل القرارات التي تجاوزت صفة الانحياز السياسي الأمريكي لتشكل عدوانًا صارخًا كان بشأن القدس، التي لها مكانة دينية لوجود المسجد الأقصى المرتبط بحادثة الإسراء والمعراج، فقد اعترفت بها إدارة ترامب عاصمة موحدة للكيان الصهيوني ونقلت سفارتها من تل أبيب إليها دون حساب لمشاعر العالم الإسلامي، الذي قابل هذه الخطوة العدوانية للأسف بالصمت، مقتصرًا على بعض البيانات اللفظية، وهو موقفٌ أدنى بكثير من حادثة حرق منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى الذي قام بفعلته الشنيعة أحد الصهاينة العنصريين، في عام 69 من القرن الماضي، وقد أشعلت حينها تلك الجريمة النكراء التي هزت المشاعر الدينية العميقة غضب جماهير المسلمين في كل العواصم العربية والإسلامية، فخرجت المظاهرات فيها منددة بذلك.

ثاني هذه القرارات هو حجب المساعدات المالية عن السلطة الوطنية التي تقدر ب 200 مليون دولار كانت تخصص للإنفاق على بعض المشاريع الاقتصادية.

وفي إطار توجهها لإلغاء حق العودة قررت الإدارة الأمريكية كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست إلغاء التمويل الأمريكي لمنظمة غوث اللاجئين الأونروا، مما جعل الوكالة التي تقدم خدماتها منذ تشكيلها عام 51 تمر في أزمة سياسية انعكست على الوضع المعيشي، خاصة في قطاع غزة الذي يعاني من أوضاع بائسة بسبب الانقسام السياسي والحصار، وهو قرار مرتبط بنيّة الإدارة الأمريكية تغيير تعريف اللاجئين وذلك بعدم الاعتراف بعددهم الحالي، وإنّما فقط بـ 1%، أي ما يقارب نصف مليون فقط، بحجة أن اللجوء لا يُورَّث، وهو ما يعتبر توجه خطير تجاه أهم معالم القضية الفلسطينية.

بهذه القرارات الخطيرة التي تكشف عن توجه عنصري وديني يتوافق مع طبيعة المشروع الصهيوني، تكون الولايات المتحدة قد تجاوزت كل حدود صفة الانحياز السياسي المتعارف عليه، والذي ساد منذ النكبة عام 48 العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ومورس حتى الآن، أي ما يقارب سبعين عامًا هي عمر وجود الدولة العبرية، وفي ظل هذا الانحياز السياسي تحققَ للكيان الصهيوني بفضل ذلك عدة مكاسب سياسية هامة، وبدون الاستعداد من طرفه لدفع أي استحقاق للعملية السلمية.

فمن ناحية التحولات البارزة في الموقف السياسي العربي وفي ظل الدور السياسي الأمريكي المنحاز تم الاعتراف به من قبل مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن الناحية العملية تحصّل على إجراءات تطبيع بأشكال مختلفة مع أكثر من قُطر عربي، غير أن السياسة الأمريكية الحالية منذ تولي ترامب منصب الرئاسة في البيت الأبيض تجاوزت بكل المقاييس مفهوم هذا الانحياز السياسي الذي درجت الدبلوماسية الأمريكية على ممارسته.

قرارات تصفوية مدمرة للمشروع الوطني الفلسطيني لم تصدر من قبل من أي دولة في العالم، كبرى كانت أم صغرى، تماثل في خطورتها شن حرب عدوانية على الشعب الفلسطيني وعلى حقوقه الوطنية والتاريخية، التي أقرتها الشرعية الدولية. لذلك نقول: على وسائل الإعلام الرسمية الفلسطينية وعلى وسائل الإعلام العربية، خاصةً المناهضة للسياسة الأمريكية –إذ يوجد للأسف في الخطاب السياسي العربي إعلامٌ لبعض الأنظمة السياسية يتساوق مع الإعلام الأمريكي في تعميم توجهاته العدائية للقضية الفلسطينية- وكذلك على كتاب الرأي في الصحف الورقية والإلكترونية، على كل هذه الأوساط الإعلامية والسياسية والثقافية أن تستبدل عبارة الانحياز الأمريكي بعبارة العدو الأمريكي، حيث لم تعد هناك فروق الآن بين طبيعة وجوهر السياسة الصهيونية العنصرية العدوانية الرافضة لأي عملية سلام عادلة وبين السياسة الأمريكية الإمبريالية العنصرية العدوانية الحالية بخصوص إطار وسقف الحلول السياسية للقضية الفلسطينية؛ فكلتاهما تصدر الآن من عقلية سياسية واحدة قوامها الحرب على هذه الحقوق الوطنية والاعتداء على شرعيّتها الدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق