
المثقف بين وهج المعرفة وسراب الاستعراض
بقلم / د. عبدالله عيسى البطيّان
إن المتأمل في المشهد الثقافي المعاصر يجد نفسه أمام مفارقة محيرة؛ فنحن نعيش في عصر الانفجار المعلوماتي الأكبر في تاريخ البشرية، ومع ذلك، نشعر بهوة سحيقة تفصل بين “النخبة المثقفة” وبين الواقع المعاش.
فهل لا يزال المثقف يحمل مشعله القديم كبوصلة للمجتمع، أم أن أضواء “السوشيال ميديا” الباهرة قد أعمت الأبصار عن جوهر الدور الحقيقي؟
دور المثقف: من التنظير إلى “تذليل الصعاب”
تاريخياً، لم يكن المثقف مجرد خزانة للمعلومات، بل كان “مهندس وعي”، الدور الحقيقي للمثقف يكمن في تبسيط الحياة لا تعقيدها، وفي تحويل المعرفة من نصوص جامدة إلى أدوات ابتكارية تحل مشكلات المجتمع. المثقف الحقيقي هو من يبني “الجسور المعرفية” التي تعبر عليها الجماهير من الجهل إلى الوعي، ومن الفوضى إلى النظام. إن مهمة المثقف ليست في التعالي بلغة نخبوية، بل في تطويع المعرفة؛ لتصبح صوتاً لمن لا صوت لهم، ومختبراً للأفكار التي تذلل عقبات المجتمع.
واقع الساحة: جسور ممتدة أم جدران عازلة؟
عندما نسأل: “هل امتدت الجسور المعرفية؟”، نجد الإجابة مؤلمة في بعض جوانبها. فالواقع يشير إلى أن الكثير من النتاج الثقافي اليوم تحول إلى “سلعة للتباهي”. لقد استبدلنا القيم الاستثنائية التي تخدم الجماعة بـ قيم أنانية تخدم “الأنا” المتضخمة للمثقف أو المؤثر الرقمي.
بدلاً من أن يكون المثقف “مبتكراً” للحلول، أصبح البعض يمارس الثقافة كنوع من “الإكسسوار” الاجتماعي لرفع القيمة السوقية الشخصية. وهنا نجد أن الأدوات التي كان من المفترض أن تذلل صعاب المجتمع، أصبحت تُستخدم لتعميق الفجوات الطبقية والمعرفية وزيادة حدة الأنانية.
رؤية 2030: الثقافة كتمكين وطني لا استعراض شخصي
وفي ظل هذه التحديات، تأتي رؤية السعودية 2030 لتعيد تعريف المشهد الثقافي من منظور مؤسسي طموح، محولةً الثقافة من “ترف” إلى “ضرورة تنموية”. إن الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية اليوم يمثل استجابة حقيقية لتساؤلاتنا حول غياب الجسور؛ فهي تعمل على “أنسنة” الثقافة وجعلها جزءاً من الحياة اليومية.
لقد وفرت الدولة أدواتاً جبارة لتذليل الصعاب المعرفية عبر مبادرات نوعية، منها:
مبادرة “الشريك الأدبي”: التي أخرجت الأدب من القاعات المغلقة إلى المقاهي والأماكن العامة، محطمةً الجدران بين المثقف والجمهور.
جوائز الثقافة الوطنية: التي تحتفي بالإبداع الحقيقي الذي يترك أثراً، لا ذلك الذي يكتفي بالضجيج المؤقت.
صندوق النمو الثقافي: الذي يدعم تحويل الأفكار الثقافية إلى مشاريع مستدامة تخدم الاقتصاد والمجتمع.
هذه المبادرات وضعت المثقف أمام مسؤوليته التاريخية؛ فالدولة وفرت “الجسور” و”الأدوات”، ولم يعد هناك عذر للبقاء في دائرة التباهي والأنانية.
نحو عودة الوعي: استعادة المشعل
إننا بحاجة اليوم إلى “مثقف عضوي” ينخرط في هموم مجتمعه، ويبتكر أدوات معرفية تلمس حياة الناس اليومية. نحن بحاجة إلى:
التواضع المعرفي: نبذ التباهي والعودة لخدمة الحقيقة والمجتمع.
استثمار الممكنات: تحويل الدعم المؤسسي لوزارة الثقافة إلى حراك فكري يغير السلوك الاجتماعي للأفضل.
إن الثقافة ليست رداءً نرتديه لنتجمل به أمام المرايا، بل هي “فعل تغيير”. وإذا لم يقم المثقف بدوره في تبسيط هذه الحياة المعقدة وابتكار ما يسهل عيش الناس، فإنه يفقد شرعية وجوده، ويصبح مجرد صدى في فراغ النرجسية الرقمية.
تجربتي مع النورس الثقافية ومشاركة المجتمع هي محاولة أن أكون ذلك الجسر وتذليل الصعاب لخدمة المجتمع؛ لينتقل بما فيهم أنا في تجربة الاستفادة من الوعي المبكر ومصافحة أيادي محبي الإبداع حتى ينمو الإبداع بالإبداع، ويكتشف أصحاب الرؤى بقدرتهم على التعاطي الممتد منهم وإليهم، حيث كانت رسالتنا: نحن أنت وأنت نحن في سبيل حفظ إرثك الثقافي، واليوم تجاوزنا 120 كتاب ممن ساهمنا في نشر إبداعاتهم بعد محاولات عدة انطلقت بتوليد الثقة، والشعور ببيئة الاحتضان، والمشاركة الإبداعية، محاولة صادقة وبنية واضحة لبذل الوقتي والمالي والفكري لنكون ما نحن عليه اليوم في الأحساء.

