مقالات

مجموعة كل يوم مقالة * قضايا آخذة بالانكماش * رؤية * هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان المقالة: “من الساحات إلى الشاشات، كيف انكمشت القضايا الكُبرى” (3 -4-5)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* حين كانت الساحات تنبض بالحياة
قبل عقدين فقط، كانت القضايا الكبرى تُصنع في الشوارع والساحات والجامعات، في عالمنا العربي، لم يكن الناس يتابعون الأخبار فقط، بل كانوا يصنعونها بأقدامهم وهتافهم، كان الطالب يترك محاضرته ليشارك في وقفة احتجاجية، وكانت النقابات تشتعل إذا مُسّت كرامة الأمة، وكانت المساجد منابر للوعي قبل أن تتحول إلى فراغ صامت؛ – بفعل فاعل- كان كل حدث سياسي أو اجتماعي يجد مكانه في قلوب الناس، لا على شريط أخبار يمر مرور الكرام.
* هيمنة الشاشة وخفوت الصوت
اليوم تبدلت المعادلة جذريًا، لم تعد الساحات تصنع الحدث، بل صارت الشاشات الصغيرة هي الساحة الوحيدة، القضية التي كانت تحتاج أيامًا من النقاش والعمل الميداني، أصبحت تختزل في وسم ما يسمّى: (هاشتاغ) عابر أو مقطع فيديو لا يتجاوز نصف دقيقة، ينفجر الغضب الرقمي ساعات قليلة، ثم يخبو سريعًا وكأن شيئًا لم يكن؛ – مجرد فُقاعة- صار الاحتجاج ضغطة زر، والانتصار الافتراضي بديلاً عن النصر الحقيقي، حتى خُيّل للناس أن العالم يتغير بتعليقاتهم.
* تفريغ القضايا من مضمونها
هذا التحول لم يأتِ صُدفة، حين تتحكم الخوارزميات في ما يظهر لك وما يختفي، يصبح من السهل إعادة تشكيل الوعي دون أن تشعر، القضايا الجوهرية ـ فلسطين، الهوية، الفقر، الاستبداد ـ تُدفن في زوايا معتمة، بينما تُضخّم فضائح تافهة أو معارك وهمية لتملأ الفضاء العام، والناس، من فرط التكرار، صاروا يتابعون كل شيء ولا يعون أي شيء، إنه وعي سريع الهضم، بلا جذور ولا ذاكرة.
* جيل يعرف كل شيء ولا يفعل شيئًا
لم يعرف جيل من قبل مثل هذا الكم الهائل من المعلومات، يعرفون أسماء السياسيين، تفاصيل المؤامرات، أرقام الاقتصاد، وملايين الأخبار في لحظة. لكنهم أقل الأجيال قدرة على تحويل المعرفة إلى فعل. لأن الوعي المستهلك على الشاشة لا يُترجم إلى حركة على الأرض، في الماضي، كان الانحياز لفكرة أو قضية يعني أنك مستعد لدفع ثمنها: اعتقال، طرد من الجامعة، مواجهة الطغيان، اليوم يكفيك أن تضغط زر “إعجاب” وتشعر أنك أديت واجبك تجاه الأمة. -أليس كذلك يا سادة؟-
* من التضحية إلى الترف الفكري
في الساحات الحقيقية، كان الناس يُمتحنون بالدموع والعرق والخوف، أما في عالم الشاشات، فالقضايا تُستهلك مثل أي محتوى ترفيهي، ينقلب المزاج العام خلال ساعات: من التعاطف إلى السخرية، من الغضب إلى النسيان. لا وجود للتراكم ولا للذاكرة الجمعية، صار النضال رفاهية فكرية: كلمات جميلة وصور جذابة، لكن بلا كلفة حقيقية.
* استعادة الفعل من العالم الافتراضي
الحل ليس في رفض التقنية أو الهروب من المنصات، بل في كسر احتكارها للوعي، علينا أن نعيد ربط العالم الرقمي بالواقع الملموس، يمكن للهاشتاغ أن يكون أداة لخلق وعي أولي، لكن يجب أن يتحول إلى حلقات نقاش، مبادرات على الأرض، ومشاريع حقيقية تغيّر الواقع، الشباب بحاجة إلى أن يفهموا أن التاريخ لا يُكتب على شاشات الهواتف، بل بأقدام الناس وأصواتهم ومواقفهم، الأمم التي تحوّل قضاياها إلى ترندات مؤقتة لا تنتصر في معارك المصير.
* خاتمة: بين الواقع والافتراض جدار زجاجي
القضايا الكبرى انكمشت لأنها نُزعت من ساحات الفعل ونُقلت إلى عالم الشاشات، حيث تُستهلك مثل أي مادة ترفيهية، إذا لم تُستَعَد الساحات الفكرية والاجتماعية والسياسية، فسيبقى الناس مجرد جمهور يتفرج على تاريخه وهو يُكتب على يد الآخرين، ثم يصفق وهميًا لانتصارات لا وجود لها إلا على الإنترنت…فعالم الشاشة شيء والواقع في الخارج شيئًا آخر، والله المستعان.. ولكم مني التحية والسلام
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2059)
* 27 . صفَر .1447 هـ
* الخميس. 21.08.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب).

*******

* مجموعة كل يوم مقالة
* فوضى الطلاق
* رؤية
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “الطلاق ينهش أسرنا: 4020 حالة في عام واحد” (4)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* الطلاق.. قنبلة موقوتة في بيوتنا!
حين تُفتح أبواب المحاكم الشرعية كل صباح، تتدفق ملفات الأسر الممزقة وكأنها شلال من الألم لا يتوقف. تقرير عام 2024 كشف أرقامًا صادمة: 38,316 ملفًا نظرت فيها المحاكم، بينها 4020 قضية طلاق وتفريق تمثل 10.6% من إجمالي القضايا، وهو ارتفاع يهدد كيان الأسرة العربية في الداخل الفلسطيني ويكشف أزمة تتجاوز الخلافات الزوجية الفردية لتصبح ظاهرة اجتماعية شاملة، هذه الملفات ليست أرقامًا جامدة، بل حياة ينهار بعضها يوميًا أمام أعيننا، وأطفال تتقطع بهم السُّبل بين بيت وآخر، وأزواج يغلقون الأبواب على حلم مشترك لم يستطع الصمود أمام التحديات.
* الأسباب أعمق من مجرد خلافات يومية
ليست المشكلة مجرد اختلاف طبيعة الزوجين، بل أن الخلافات تتحول بسرعة إلى انفصال نهائي بسبب تراكم عوامل عدة منها:
1- غياب التأهيل قبل الزواج:
كثير من الشباب والفتيات يدخلون الحياة الزوجية بلا معرفة كافية بمعنى الميثاق الغليظ ومسؤولياته.
2- تدخلات عائلية سلبية:
الأسرة التي كان يُفترض أن تكون مظلة إصلاح، تتحول أحيانًا إلى طرف يُؤجج الصراع ويزيده تعقيدًا.
3- ضعف الوازع الديني:
حين يغيب استحضار قدسية الزواج، تُختزل العلاقة في بنود قانونية باردة، بلا روح أو التزام أخلاقي.
4- ثقافة الاستهلاك والأنانية: حيث تُقاس المودّة بما يُقدّم ماديًا لا بما يُبنى وجدانيًا، ويُنسى أن الحب الحقيقي يحتاج إلى صبرٍ وتفاهمبالطبع، إليك المعطيات المتعلقة بمحاكم عكا، سخنين، والناصرة الشرعية لعام 2024، والتي يمكنك إضافتها إلى مقالتك لتوضيح واقع الطلاق في هذه المناطق:
5- الإعلام ومواقع التواصل: صور وهمية عن الزواج المثالي تجعل الواقع يبدو ناقصًا ومخيّبًا، فتزيد الضغوط على الأزواج وتحفّز الإحباط.
* انعكاسات الطلاق على المجتمع
الطلاق لا يتوقف عند إنهاء العلاقة بين زوجين، بل يجر وراءه ملفات متشعبة تكشف حجم المعاناة:
• نفقة الزوجة ارتفعت بنسبة 47.1% (من 1706 إلى 2510 ملفات)، ما يعكس الضغوط المالية التي تواجه النساء بعد الانفصال.
• نفقة الأولاد زادت بنسبة 42%، وهو مؤشر واضح على أن الأطفال هم الضحايا الأبرز في هذا النزاع.
• ملفات الحضانة ارتفعت بنحو 39.7%، ما يوضح شدة الصراع على رعاية الصغار وتحديد حقوقهم بين الأطراف.
توزيع القضايا يظهر اتساع الظاهرة: تصدرت محكمة القدس الشرعية بنسبة 25.8%، تليها محكمة بئر السبع بـ17.2% ثم الناصرة بـ11%، ما يدل على أن الطلاق أصبح قضية مجتمع بأسره، وليست مقتصرة على منطقة معينة.
* الطلاق ليس دائمًا حلاً
يظن بعض الأزواج أن الطلاق يوقف الألم، لكنه غالبًا ينقل المعاناة إلى الأطفال ويترك الطرفين بجراح عميقة، تتحول الأسرة من مصدر أمان إلى ساحة معركة قانونية، ويخسر المجتمع لبِنة أساسية من تماسكه الداخلي، الأطفال يختبرون الفقد والغياب، والأزواج يعيشون شعور العجز والإحباط، والمجتمع كله يدفع ثمن التفكك.
* كيف نواجه الظاهرة قبل أن تنفجر أكثر؟
• تأهيل عملي للمقبلين على الزواج: دورات متخصصة تكشف تحديات الحياة الزوجية بأسلوب واقعي، وتزرع مهارات حل النزاعات.
• لجان إصلاح أسرية محترفة: تعمل قبل اللجوء للمحاكم، وتحاول الحل بحكمة وسرية، مما يقلل من أثر الخلاف على الأسرة.
• خطاب ديني واضح ومؤثر: يعيد للزواج مكانته وقدسيته، ويحفز الصبر والتسامح بدل التسرع في الفراق.
• دعم نفسي واجتماعي: للأزواج في بدايات الخلاف، لأن بعض الطلاقات تحدث بسبب غياب من يسمع ويحلّل الخلاف بحكمة.
• مسؤولية إعلامية ومجتمعية: من خلال تقديم نماذج أسرية واقعية، تُبرز قيمة الصبر والحوار، وليس استهلاك العلاقة أو الانفصال عند أول مشكلة.
الخاتمة: هل ننتظر حتى ينهار البيت؟
إذا لم يتحرك المجتمع بمؤسساته الدينية والاجتماعية والقانونية، فإننا سنترك الأجيال القادمة تعيش في أسر مكسورة، ومجتمع مفكك الروابط. مواجهة الطلاق ليست قضية زوجين فقط، بل قضية هوية واستقرار ومستقبل. الزواج ليس عقدًا يُلغى بتوقيع، بل أمانة ومسؤولية أمام الله والمجتمع. علينا أن نعيد للميثاق الغليظ وزنه، وأن نجعل الإصلاح شرفًا يسبق أي قرار بالفراق.
4020 طلاقًا في عام واحد ليست رقمًا عابرًا.. إنها صرخة يجب أن توقظنا جميعًا، وتحركنا قبل فوات الأوان… ولكم مني التحية والسلام

* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2060)
* 28 . صفَر .1447 هـ
* الجمعة. 22.08.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب).

********

* مجموعة كل يوم مقالة
* جبروتٌ مهزوم
* رؤية
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “غطرسةُ الفراعنةُ ونهايتهم المُذلّة ” (5)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

تاريخ البشرية يفيض بأسماء اعتقدت أنها خُلقت لتبقى، قادة طغاة رفعوا رؤوسهم فوق كل قانون، وظنّوا أن الأرض ومن عليها ملك أيمانهم. يتوارثون الغطرسة جيلاً بعد جيل، لكنهم لا يتوارثون الحكمة ولا العبرة. كلما أشرقت شمس جديدة خرج فراعنة جدد بوجوه مختلفة وشعارات زائفة، يرفعون قبضتهم فوق الشعوب ويحسبون أن جبروتهم يحميهم من السقوط.
فراعنة العصر ليسوا بحاجة إلى أهرام، ولا إلى عروش من ذهب. يكفيهم جيشٌ من المرتزقة، وإعلامٌ يطبّل، واقتصادٌ يُنهب، ودماء الأبرياء لتُعبد طريق سلطانهم. يفسدون في الأرض ثم يظنون أنهم خالدون، يبطشون بكل صوت حر، ويقمعون كل كلمة حق، ويستمتعون بمنظر الجماهير وهي تُساق كالقطعان إلى الخوف والصمت. يتباهون بفاشيتهم كأنها بطولة، ويعلّقون أوسمة على صدورهم الملطخة بجرائم لن تغسلها أنهار الدنيا.
لكن عجلة التاريخ لا ترحم. كل طاغية يتوهّم أنه استثناء، وأنه أكبر من القانون وأقوى من الشعوب وأبعد من يد العدالة. غير أن ساعة الحقيقة تأتي دائمًا، لتسقط الأقنعة، وتنهار الأبراج التي بُنيت على الدماء والسرقة والخداع. لم يتعلم فراعنة اليوم أن كل من سبقهم انتهى إلى نفس المصير: مهزلة وسقوط، لعنة في كتب التاريخ، وجثة مهملة يلعنها الجميع بعد أن كانت تهتف لها الحناجر خوفًا ورياءً.
الطغاة لا يقرأون التاريخ إلا بعيون الغرور. يتوهمون أن أجهزة القمع تخلّدهم، وأن التحالف مع الشياطين يضمن بقاءهم. لا يدركون أن السلطة حين تنقلب تتحول إلى أداة فضح لا أداة حماية. لقد رأينا بأعيننا كيف تنقلب الجماهير نفسها التي صُلبت إرادتها عليهم حين تسقط أول طوبة من جدار الاستبداد. ورأينا كيف يفرّ حراسهم قبلهم، وكيف يتسابق المصفقون أمس على لعنهم اليوم، وكيف تصبح قصورهم متاحف لعارهم، أو خرائب تنهشها الرياح.
ما الذي يجعل فراعنة هذا العصر يظنون أنهم خُلقوا من طين مختلف؟ هل لأن العالم صامت؟ أم لأن التكنولوجيا تمنحهم شعورًا بالهيمنة المطلقة؟ أم لأن المال الملوّث يفتح لهم أبواب العواصم الكبرى؟ أيًا كانت الأسباب، فالنتيجة واحدة: نهاية مذلّة يسبقها سقوط مريع، حيث لا ينفعهم حلفاؤهم ولا ترحمهم شعوبهم، ولا يجدون لهم موطئ قدم في الأرض التي زعموا امتلاكها.
ولعل أعظم ما في سقوط الفراعنة أنه لا يأتي من خصومهم الكبار، بل من تصدّع داخلي يبدأ صغيرًا ثم يكبر حتى يلتهمهم من الداخل. تأتي النهاية من خيانة أقرب المقربين، ومن حسابات المال والسياسة التي تنقلب فجأة، ومن صرخة مظلوم تتردد أصداؤها حتى تُزلزل أركان الطغيان.
من يظن نفسه فوق التاريخ يكرر خطأ كل الطغاة الذين سبقوه. لا سلاح أقوى من سنّة الله في تبديل الأحوال، ولا حصن يحمي من عدالة السماء حين يحين الأجل. اليوم قد يُصفّق لهم المرتزقة، لكن غدًا تُرفع صورهم مقلوبة، وتُمحى أسماؤهم من القصور التي زُينت بها، وتتحول سيرتهم إلى لعنة تتناقلها الأجيال.
الطغاة لا يموتون موتًا عاديًا، بل يموتون وهم أحياء قبل موتهم؛ تلاحقهم الخيانة، يحيط بهم الرعب، ويأكلهم القلق الذي لم يعرفوه يومًا. وما إن يسقطوا حتى يدرك الجميع كم كانوا صغارًا رغم ما ادّعوه من عظمة. هذه هي العدالة التي لا تخطئ: غطرسة يعقبها سقوط، وجبروت يتبعه إذلال، ومشهد نهاية لم يعد يثير الشفقة بل السخرية.
فراعنة الأمس واليوم والغد مصيرهم واحد.. ومهما طال ليل الطغيان، فالفجر قادم لا محالة… ولكم مني التحية والسلام
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2061)
* 29 . صفَر .1447 هـ
* السبت. 23.08.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب).

********

إغلاق