مقالات
رحلات العرب والمسلمين إلى العالم الجديد قبل كولومبوس: التاريخ المطمور خلف السردية الغربية.
بقلم أ.د.عبد الحفيظ الندوي/ كيرلا الهند

يشيع في المصادر الغربية أنّ اكتشاف القارة الأمريكية بدأ مع رحلة كريستوفر كولومبوس سنة 1492، غير أنّ العديد من الشواهد التاريخية والجغرافية والأثرية تدل على أنّ العرب والمسلمين قد بلغوا العالم الجديد قبل ذلك بقرون، وأسهموا بصورة غير مباشرة في تمهيد الطريق لرحلات الملاحة الأوروبية.
لقد أشار العالم الموسوعي أبو الريحان البيروني في القرن الخامس الهجري إلى احتمال وجود أراضٍ مأهولة وراء المحيط الأطلسي، كما ألمح القاضي أبو بكر بن العربي في بعض رسائله إلى فرضية وجود قارة في الغرب البعيد، وهو ما يعكس معرفة نظرية سابقة لدى علماء المسلمين بامتداد اليابسة خلف المحيط.
تأثير المعارف الإسلامية على كولومبوس
أما كولومبوس نفسه فقد تأثر بالمعارف البحرية الإسلامية على نحو واضح، إذ تشير الوثائق إلى أنّه سافر مع بحارة عرب وتلقى عنهم خبراتهم في الإبحار، كما استخدم أدوات ملاحية من ابتكار العرب مثل الإسطرلاب والبوصلة والسدس. احتوت مكتبته الخاصة على مؤلفات جغرافية عربية، واطلع على خرائط ومصادر إسلامية مترجمة أو مكتوبة بلغتها الأصلية. هذه الصلة المعرفية بينه وبين الإرث العلمي العربي تجعل رحلته استمرارًا لسلسلة طويلة من المحاولات لا بدايتها.
شواهد تاريخية وأثرية لا يمكن تجاهلها
تذكر بعض المصادر الإسلامية أن البحّار خشخاش بن سعيد أبحر من الأندلس سنة 889 ميلادية وعبر المحيط حتى وصل إلى جزر الكاريبي، كما تروي روايات أخرى أن ابن الفاروق قام برحلة مماثلة إلى جامايكا عام 999، وأن جماعة من المسلمين القادمين من سواحل الشام أبحروا سنة 1291 فبلغوا جزر الكاريبي أيضًا. وورد في كتابات المؤرخين ابن الوردي وأبي زكريا الإصبهاني ذكر وجود أراضٍ خلف جزر الكناري، مما يعزز فرضية معرفة المسلمين بوجود أراضٍ في الغرب قبل وصول الأوروبيين إليها.
ولا تقتصر المؤشرات على النصوص التاريخية فحسب، بل تمتد إلى دلائل أثرية ولغوية؛ فقد عُثر في مناطق متعددة من الكاريبي والمكسيك وجمهورية الدومينيكان على نقوش حجرية بالخط العربي، وعلى عمائر تحمل ملامح الطراز الإسلامي، كما ظهرت في بعض لغات السكان الأصليين مفردات ذات أصل عربي، الأمر الذي يوحي بوجود تواصل حضاري مباشر أو غير مباشر قبل وصول كولومبوس.
الوثائق الحديثة تؤكد الأسبقية الإسلامية
تؤكد الدراسات الحديثة هذه الفرضيات. فقد أشارت جامعة رود آيلاند إلى أن “فرضية الوجود الإسلامي قبل كولومبوس في العالم الجديد جذابة لأنها معقولة جداً. كانت الإنجازات الملاحية للمسلمين مهمة بالفعل. السجلات تؤكد أنهم استكشفوا بسرعة واستعمروا جزءاً كبيراً من العالم القديم بحلول القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. كان كولومبوس نفسه مديناً بمهاراته البحرية للمسلمين، وليس هناك شك في أن المسلمين كانت لديهم الخبرة التكنولوجية للوصول إلى العالم الجديد”. والأهم من ذلك، أن اكتشاف مخطوطات قرآنية من القرن التاسع الميلادي يسبق رحلات كولومبوس بخمسة قرون، مما يقدم دليلاً قوياً على أن المسلمين كانوا في أمريكا قبل وقت طويل من وصوله.
إنّ هذه الشواهد، على اختلاف طبيعتها، تدعو إلى إعادة النظر في السردية السائدة حول اكتشاف أمريكا، وتؤكد أنّ عبور المحيط الأطلسي لم يكن إنجازًا فرديًا يعود إلى شخص واحد، بل كان ثمرة تراكم معرفي وحضاري أسهم فيه العرب والمسلمون بدور مبكر وفعّال، وهو ما يجعل تاريخ العالم الجديد أوسع وأعمق من الصورة التقليدية التي رسّختها الكتابات الأوروبية.

