عواصم ثقافيه

فهم الاستراتيجية الصينية عن طريق ثقافتها

المقال التالي ترجمة لمقال “مايلز موتشن يو” في معهد هوفر، عن الأزمة في بحر الصين الجنوبي وكيف يمكن تفسير موقف الصين منها بالإحالة لثقافتها وتاريخها.

___

بينما لا تزال الصراعات المسلحة محتدمة في سوريا والعراق وبقية بقاع العالم المضطربة، يختمر حريق كبير ذو أبعادٍ أسطورية قد يضم بعض أقوى دول العالم، من بينها الولايات المتحدة والصين واليابان وحتى روسيا، في بحر الصين الجنوبي. في قلب هذا الصراع تقع المطالبات البحرية والحدودية المبالغ بها للصين بالسيادة على ما يكاد يكون كامل بحر الصين الجنوبي، مثيرةً غضب أغلب بلدان المنطقة وسخط الأطراف المعنية الرئيسية حول أهم طرق الشحن التجارية بالعالم، ومتحديةً القوانين البحرية الدولية الرئيسية والأطر التفسيرية للسيادة ووحدة الأراضي الإقليمية.

رغم ذلك، لا ينبغي رؤية تصرفات الصين ببحر الصين الجنوبي في الآونة الأخيرة كمجرد انعكاس للصعود والسقوط الطبيعي للدول الذي تحركه المخاوف والمصالح الذاتية المعروفة، وإنما تتبع تلك التصرفات منطقًا حتميًا للتاريخ الصيني، وتمتد جذورها بعمق في الثقافة الاستراتيجية العريقة للصين، وعناصرها الأساسية كالتالي:

 

المركزية الصينية

في تاريخ الصين الطويل، وعلى عكس بقية العالم، لم يكن هناك أبدًا قبولًا طوعيًا للمساواة في السيادة بين الأمم، كبيرها وصغيرها. في قلب الثقافة الاستراتيجية للصين تقع مركزية الصين، والتي تضع الصين في أكثر البقاع محورية بالعالم مع مسؤولية أخلاقية تقضي بحكم كل ما تحت السماء بثقافة ومؤسسات الصين المتفوقة – وهي فلسفة سياسية تم شرحها على نحوٍ واسع في بيانٍ يدعى “الحلم الصيني” كتبه أحد الكتّاب العسكريين الصينيون. “لم يوجد أبدًا بالعالم شيءٌ يدعى بالصعود السلمي لأمة”، هكذا كتب الكولونيل ليو مينجفو من جيش التحرير الشعبي الصيني في كتابه الأفضل مبيعًا بالصين والذي يقع في 300 صفحة. ويتابع في موضعٍ آخر: “تمتلك الصين جينًا ثقافيًا متفوقًا يؤهلها لتصبح قائدة العالم”. سواء كان ذلك عن طريق الصدفة أو عن قصد، فإن البرنامج السياسي للقائد الصيني الأعلى شي جين بينغ يدعى أيضًا “الحلم الصيني”. وبالتالي فإن الصين ببساطة ليست مجرد دولة مهمة، لكنها كتلة حضارية تعمل على إلهام العالم كي يصبح مثل الصين أكثر فأكثر ويقبل أسلوب الحكم في الصين.

في الواقع فإن إحساس الصين الذي لا يتزعزع بكونها ضحية وبتعرضها للإذلال، الذي روجته الحكومة الصينية بقوة لعقود، يتعلق بمعاناة الصين منذ حرب الأفيون في أربعينيات القرن التاسع عشر على أيدي الإمبرياليين الغربيين بنفس قدر تعلقه بالسخط والاشمئزاز تجاه فكرة أن المملكة السماوية العظيمة تم التنمر عليها من قِبل دولٍ صغيرة أقل تطورًا بكثير وأدنى في المرتبة الأخلاقية ولديها القليل من أو ليس لديها تراثٌ ثقافيٌ مصقول وعظمة فكرية.

يمكن أن يختزل سلوك الصين العدواني ومطالباتها البحرية المبالغ بها، والتي تترجم إلى رهان بحر الصين الجنوبي، إلى مسألةٍ تتعلق بتصحيح نسق عدم احترام البلد الكبير من قِبل تلك البلدان الصغيرة المزعجة حول بحر الصين الجنوبي، خاصة الفلبين وفيتنام، البلدان الأكثر مقاومة للبلد الكبير.

الثقة والخداع

الصين هي ضحية تقاليدها الاستراتيجية الخاصة. وُلد جوهر التفكير الاستراتيجي الصيني من رحم حقبة الممالك المتحاربة منذ ألفي عامٍ مضت. كان ذلك عصر العديد من المخططين الاستراتيجيين اللامعين والكتابات الوافرة عن الحرب والاستراتيجية. منذ ذلك الحين، لا يوجد الكثير من التفكير الابتكاري في الاستراتيجية العسكرية يمكن اعتباره متفوقًا على الكتابات والأطروحات الاستراتيجية العسكرية الغنية التي ميزت تلك الحقبة.

عُرفت حقبة الممالك المتحاربة بحروبها الضروس بين عددٍ كبير من الدول الصينية الصغيرة التي تتنافس على التفوق. كانت منافسةً قوية بين أنداد، حيث لم تمتلك دولة واحدة القدرة على هزيمة خصومها بسهولة. عززت تلك الظروف أهمية التحالفات السياسية والعسكرية من أجل التغلب على الخصوم الرئيسيين. لكن بمجرد تحقق الهدف قصير المدى وهو هزيمة عدو مشترك، كان الحلفاء السابقون ينقلبون سريعًا على بعضهم البعض مكونين تحالفاتٍ نفعية جديدة. كان ذلك النمط من الخداع والانتهازية مقبولًا على نحوٍ واسع في ذلك الوقت كأمرٍ طبيعيٍ تمامًا، ولم يحمل أحد ضغائن ضد حلفاءٍ غادرين لأنه بالنسبة للجميع كان كل شيء لعبة قوة وصراع من أجل التفوق. لم يُنتهك أي مبدأ، لأن المبدأ الوحيد كان استعمال الآخرين لتحقيق الأهداف الأنانية للمرء.

لكن بناء التحالفات خلال حقبة الممالك المتحاربة ترك علامةً لا تمحى في الثقافة الاستراتيجية الصينية، علامةٌ تضع تركيزها على النفعية والخداع قصيري المدى، لا على الثقة الاستراتيجية والصداقة طويلتي المدى.

لذا فقد رأينا انهيارًا كبيرًا في الثقة المتبادلة بين الصين وأغلب جيرانها، خاصةً دول منظمة آسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) التي لديها خلافات مع مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي. أيًا كان ما تفعله الصين، فإنه لا يظهر الاتساق والجدارة بالثقة، حيث إن حسابات بكين عادةً ما تكون غريبة بوضوح وغير منطقية على نحوٍ صارخ.

نهج الغزو عن طريق الإقناع الأخلاقي، الإخضاع عبر الإقناع الطوعي بتفوق الصين، الذي تمرست به الصين، هو عنصر يدعى في الثقافة الاستراتيجية الصينية وانجداو

لنأخذ نهج الصين الرئيسي تجاه دول منظمة آسيان كمثال. من ناحية، تقبل الصين مدونة قواعد سلوك آسيا كمبادئ ملزمة للجميع، لكنها من ناحيةٍ أخرى ترفض أي بيان جماعي لدول المنظمة بشأن النزاعات، تاركةً الجميع متشككين في دوافع الصين. هنا، تظهر الثقافة الاستراتيجية للممالك المتحاربة بوضوحٍ كامل.

مثالٌ آخر: الصين هي دولة موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، لكن الصين تنكر تمامًا أي شرعية للتحكيم الدولي، والذي تتطلبه بنودٌ محددة بالاتفاقية. كدولةٍ موقعة على الاتفاقية، رفضت الصين بحزم المشاركة في قضية التحكيم التي رفعتها الفلبين. بفعل ذلك، لا تساعد الصين نفسها فيما يتعلق ببناء ثقةٍ دولية في إخلاصها. مجددًا، يطارد شبح الثقافة الاستراتيجية للممالك المتحاربة الصين، محدثًا ضررًا فادحًا بصورتها.

أخيرًا، احتجت الصين بشدة على أي دور للولايات المتحدة في نزاع بحر الصين الجنوبي، واصفةً الولايات المتحدة بأنها بلدٌ “دخيل” بعيد جغرافيًا، ليس له أي نزاعات بحرية أو حدودية مع الصين في بحر الصين الجنوبي. آسيا للآسيويين. رغم ذلك، تهزم الصين خطابها عبر السعي بنشاط إلى إشراك روسيا، وهي بالقطع بلدٌ “دخيل” آخر، في صراع بحر الصين الجنوبي. أصدر وزيري الخارجية الروسي والصيني الشهر الماضي بيانًا مشتركًا يعربان فيه عن اعتراضهما على الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة كبلدٍ “دخيل”. من الصعب الهروب من المفارقة في تصرفات بكين.

في جميع تلك الحالات، تريد الصين الجمع بين الأمرين، حسن النية الدولية وتحدي القانون الدولي، على حساب مكانتها، ما يجعل الصين “بلدًا كبيرًا” بعقلية “بلدٍ صغير”، وهي متلازمة كلاسيكية للممالك المتحاربة تغلغلت في التفكير الاستراتيجي الصيني لألف عام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق