مقالات
اللغة العربية في المنصات الرقمية: تحديات التمثيل وفرص النهضة
د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان
في عالم يهيمن عليه الإنتاج الرقمي، تواجه اللغة العربية تحديات كبرى في إثبات حضورها على منصات البث العالمية مثل Netflix وYouTube وAmazon Prime. هذه التحديات لا تقتصر على كمية المحتوى المتاح، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا عميقة تتعلق بجودة هذا المحتوى ومدى ارتباطه بثقافة وهوية العالم العربي.
اللهجات المحلية والفصحى: إشكالية التوازن
يتضح من خلال المحتوى المتاح أن معظم الأعمال المدبلجة تُقدَّم باللهجات المحلية، مثل المصرية والشامية، في حين يتم إقصاء اللغة الفصحى بحجة أنها أقل جذبًا للجمهور. هذا الواقع يثير نقاشًا حول العلاقة بين اللهجات والفصحى، ومدى تأثير هذا التوجه على الهوية الثقافية العربية.
الفصحى، على الرغم من عمقها وقدرتها على التعبير، تُعتبر في أحيان كثيرة لغة أكاديمية أو رسمية، بينما تُقدَّم اللهجات كوسيط أكثر قربًا من الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن تهميش الفصحى قد يُضعف مكانتها كرمز للوحدة الثقافية بين الشعوب العربية.
ضعف الإنتاج العربي الموجه للعالمية
الإنتاج العربي المخصص للمنصات الرقمية يعاني من نقص حاد في الكم والكيف. بينما تسعى دول عديدة لإبراز ثقافتها من خلال إنتاج محتوى عالمي يعكس هويتها، يبدو العالم العربي متأخرًا في هذا الجانب.
رغم الإمكانيات الثقافية والتاريخية الهائلة، لا تزال الجهود المبذولة لتقديم إنتاج عربي مميز على هذه المنصات محدودة. غياب التخطيط الاستراتيجي لدعم اللغة العربية في هذا السياق يُعتبر مؤشرًا على تقصير المؤسسات الثقافية في مواكبة التحولات الرقمية.
الترجمة والدبلجة: جودة على المحك
الترجمة العربية على المنصات الرقمية تواجه مشكلات متعددة تتراوح بين الأخطاء اللغوية وضعف التكيف مع النصوص الأصلية، ما يؤدي أحيانًا إلى فقدان المعنى أو تشويه السياق. كما أن اللهجات المستخدمة في الدبلجة، رغم قربها من الجمهور، لا تعكس دائمًا جماليات اللغة العربية ولا تستغل إمكانياتها التعبيرية الكاملة.
هذه الإشكالية تتطلب من المؤسسات الثقافية العربية الاستثمار في تطوير أدوات تقنية ولغوية لتحسين جودة الترجمة والدبلجة، ما يعزز من قدرة اللغة على التكيف مع المتطلبات التقنية للمنصات الرقمية.
التأثير على الأجيال الشابة
من أخطر تداعيات هذا الوضع هو أثره على الأجيال الجديدة، التي أصبحت تعتمد بشكل كبير على المحتوى الرقمي للترفيه والتعليم. غياب الفصحى عن هذا المحتوى قد يؤدي إلى ضعف ارتباطهم بلغتهم الأم، وتحولها إلى لغة هامشية في حياتهم اليومية.
الأطفال والمراهقون في العالم العربي بحاجة إلى محتوى عربي جذاب، يجمع بين الترفيه والتعليم، ليُعيد بناء علاقتهم مع اللغة ويُبرز أهميتها في بناء مستقبلهم.
فرص النهضة الممكنة
رغم هذه التحديات، لا تزال هناك فرص كبيرة للنهوض بمكانة اللغة العربية في المنصات الرقمية. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
1. تعزيز الإنتاج العربي: الاستثمار في إنتاج أعمال فنية وثقافية باللغة الفصحى، تحمل طابعًا عصريًا يناسب الجمهور العالمي.
2. تطوير الترجمة: تدريب كوادر متخصصة في الترجمة والدبلجة، مع التركيز على تقديم نصوص دقيقة وجذابة.
3. إطلاق مبادرات رقمية: دعم منصات عربية تقدم محتوى متنوعًا باللغة العربية، يعكس ثراء الثقافة واللغة.
4. الشراكات العالمية: العمل مع منصات البث الكبرى لتقديم اللغة العربية كجزء أساسي من التجربة الثقافية العالمية.
ختام: مستقبل اللغة في العصر الرقمي
اللغة العربية تمتلك كل المقومات لتكون لغة منافسة في العصر الرقمي، بما تحمله من عمق ثقافي وإبداعي. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب إرادة جماعية واستثمارات حقيقية في مجالات الإنتاج الرقمي والترجمة والتعليم.
مستقبل اللغة العربية في المنصات الرقمية ليس مسألة اختيار، بل ضرورة حضارية لضمان استمرارية الهوية الثقافية في عالم يتغير بسرعة. ما نحتاجه الآن هو رؤية واضحة وخطط عملية تعيد لهذه اللغة مكانتها التي تستحقها في فضاء رقمي بات يحدد معالم المستقبل.