مقالات

بلا فائدة … للكاتب رياض الصالح

.تعودين لتسأليني من جديد عن هذا السرب الغزير من الأفكار الحائمة في سماء رأسي، والتي اعتدتِ تشبيهها بالطيور المهاجرة، أظن تشبيهك هذا يتماشى مع صورة ما يحصل حتى المنتصف، لكنه يتوقف عند مرحلة يتزعزع فيها هذا التشبيه من كل جوانبه.. يا عزيزتي
فقد أكون أرضاً دافئة تستجلب أفكاراً شاردةً من برودة ما يُتَداوَلُ في أصقاعها المختلفة، ثمّ تُغريها تلك الوفرة التي تَنشُدُها لتقرر الاستقرار والإقامة، لتستريحَ في عقلٍ طالما استقبل المتشردين أو المتمردين على عقلٍ جمعيٍّ لم يعد ملائمًا للإقامة ولا التعايش، لكنني لا أنكر كذلك أن بعضاً منها لا تحتمل ديمومة هذا الدفء وكمية هذا الاشتعال، فتفرّ من أرضي مهشمةً بعدما حلّ بها من إعادة تصنيع مذهلة تطلبت صهراً مجهداً ثم طرقاً وسحباً غيّرَ ملامحها فاستاءت من التغيير، ثم هاجرت مرة أخرى ولا أظنها بعد الفرار ستقرر العودة بالمرة، وهذا يخالف مبدأ الطيور المهاجرة في كلتا الناحيتين .. يا عزيزتي
لذا عودت نفسي على قهر الانتظار، بل ألغيته تماماً من قائمة أهدافي، فلا يجدي استسقاء الفكر إلا بصناعة القلق والترقّب المستمر، والإيمان بعقيدة الحظ السيء أو الجيد، وكل هذا لا يلزمني ما دمت أتقن بعض الوسائل الأخرى..
أعلم أنني أحاول استثارة فضولك بهذه الأخرى إن كان لا يزال لديك فضول .. ولا أظنك تستوعبين الكثير مما سأسرده عليك .. فهذه السردية تخص العارفين بالسياسة والحنكة .. الضالعين في حياكة حبائل الدهاء .. ولا أدعي انتمائي لهذه الفئة، لكنني مراقب بمنظار ثاقب لكل ما يجري، وأحاول استنساخ ما أرمقه من وسائل لاستجلاب فكرة ما أنثر حروفها هنا أو هناك بعد استدراجها عبر حوارٍ ذاتيٍّ يطرَحُ الممنوع المرغوبَ بقالب من التشويق النفسي.. حتى تقع تلك الأفكار في المصيدة ..
يا سيدتي .. تخيّلي معي عملية استدراج عصفور للنزول من الشجرة والوصول به نحو المصيدة، ستكون سهلة المنال في الخيال، وصعبةً بطيئة في الواقع لكنها أكيدة إذا اتُبِعَت التعليماتُ بدقةٍ وإتقان..
حبة قمح صغيرة كفيلةٌ بإنزال أكثر العصافير حذراً وأطولها مراوغة للاقترابِ من الطعم حتى اتخاذ قرارها النهائي بالمغامرة لتناوله مع حدّة جوعها واطمئنان حواسها ثم ضمان خطة انسحابها السريع إن حصل ما يسوؤها.. شعور الانتصار والمفاخرة هذا يولِّدُ على سبيل المكافأة .. ذلك الطمعُ بالمزيدِ الذي نَثَرَهُ الصيادُ بدِقّةٍ نحو الهدف، ويقلّلُ من نسبة الحذر معَ كلِّ فَرحَةٍ للعصفورِ بحيازةِ الطُّعم، ومع كلّ ضحكةِ استهزاءٍ على غباء من ترك القمحَ سهل المنال، شاكراً حظه الذي يفلق الصخر، وحرصَهُ الذي يضمنُ السلامَةَ بعد بذل الجهدِ والعناءِ من طول المُصابَرة لقطع جميع الأشواط نحو كومة القمح الأخيرة ..
لكنه كلما كان صبر الصياد أطول من صبرِ الضحيّة، صار اقترابها ومن ثم وقوعها في المصيدَةِ حتميّاً ولو خبُرَت هذه الحيلة في أقرانِها سابقاً مراتٍ عديدةٍ .. فبالعادة .. ليس عند العصافير ذاكرةُ طويلة غيرَ ذاكرتها لنوع الطعام الذي تحبّه، وغريزتها التي لا تُفلِحُ إلا بالتغريد ..
مسكينة تلك الضحايا التي تُسفَكُ دماؤها على نفس المقصلةِ وبنفسِ الأسلوبِ لتملأ نفس المعدة .. وأعترفُ أني صائدُ أفكارٍ عنيدةٍ تقعُ في محبرتي بنفس الأسلوبِ وليس بنفسِ النيَّة .. لأَسفِكَ بيدي دماءها على صفحَةٍ بيضاءَ كانت فارغةً مهجورةً علّني أُلفِتُ نظراً أو أُحدِثَ فَرقاً أو أستثيرُ عطفاً في عالمِ الصيادين هذا .. والذي ما عاد يلتفت لكثرة الضحايا ولا يأبَهُ للونِ الموتِ ولا أنينِ الصراخ أو بكاء الصمت إلا إن كان فيها مصلحةٌ أو صفقَةٌ رابحةٌ وبطنٌ مليء .. مسكينةٌ تلك العصافيرُ يا عزيزتي .. ومسكينةٌ هذه الكلمات التي تُسفَكُ بلا فائدة ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق