مقالات

وطن واحد .. رياض الصالح

دائمة يا عزيزتي هي العلاقة التي تجمع بيننا، وغريبة أيضاً عن المتداول في مثل هذا المقام، لكنني وبحكم ما تعرفيه عني أو تتوقعيه مني، كان لا بد لي من الظهور كل مرة، متجنّباً فظاظة اللفظ وغلاظةَ المعنى .. خوفاً على الفلك المشحون من غضبٍ ثقيلٍ مُربك، أو عِصيانٍ مغايرٍ مُغرِق، ثمَّ شفقةً على نفسي أن أكون من المدحضين .. فلست بصلاح ذي النون وقدرته على التضحية .. ولا أطيق الوقوع في بحر الملامة أو بطون الهجران ..
ثم تحدثيني عن المسافات الآمنة .. وترسمين خطوط الطول والعرض لمياهٍ زرقاء مشتركةٍ تفصل ما بين القرب والبعد عن أيّةِ أقاليم، فأستغرب وبعد هذا المسار الطويل .. أنني لا زلت مجهول الهوية.. ضبابيُّ الصفات .. وكأنّ راياتي سرابيةً برموزها .. رماديّةً بألوانها .. واهمةً في تقدمها .. قابعةً ما بين السكون والحركة ..
كأنك نسيتِ أو تناسيْتِ يا عزيزتي أنني مغامرٌ يعشق التحدّيَات، ويتجنّبُ الشعور بالأمان قبل بذل الجهد وخوض التلَف .. فلا أمان يا عزيزتي إلا على الشطآن الضحلة حيث يلهو الخائفون .. أو يستجمُّ المُرهَقون .. فلا يُكشَفُ ما وراء الأفق إلا لمن خاض المجاهيل .. ولا يجلب الصيد إلا مغامرٌ حذِرٌ يعرف أن بقاءه كذلك سيجلب المزيد ..
لكننا لا نعيش فرادى يا عزيزتي .. فلست وحدك في هذه الحياة عندما تحدد اختياراتك وتلائم دربك بين رسم الخيال وأرض الواقع .. لست وحدك عندما تكون رُبّاناً تعلقت بحزامه الأيادي ورمقتهُ العيون كالأوسمة .. فلن تنفعك حينها جرأتك على المغامرة عندما توازيها خشية الإغراق .. ولستُ مُغرِقَ سُفُنٍ يا عزيزتي .. فلست وحدي على تلك السفينة .. وليس لدى الركاب نفس الرغبة في خوض المخاطر ولا القدرة على تقبّل المخاسر، قد يلزم حينها التخلي عن قمرة القيادة .. وخوض المستحيل بانفراد بعد القفز من السفينة .. أو الجلوس مع البقية في قاعة الركاب ..
عند هذه المعضلة .. يحلو البحر الهائج يا عزيزتي في عين ذلك الربان المغامر .. فمحنة الخوف من الغرق لم يكن هو سببها .. ونعمة محاولة تجنبها تتوافق مع رغبته العارمه وصفاته المتجذرة بل يزداد فرحاً عندما يسترد نظرات الحاجة إليه وهتافات التشجيع لخوض ما كان ممنوعاً قبل العاصفة ..
أنظر يا عزيزتي إلى تلك المياه التي سُدت مجاريها كيف أصبحت تشكل فاصلاً إقليمياً بين قلبي وقلبك، لقد تراكمت حتى طفا قاربي المنتظر على صفحتها الساكنة، لم يكن لينطلق قبل ذلك في الأرض اليباب..
سامحي تطفلاتي المزعجة لسكون مساحتك الحدودية، فليس من الذوق اختراق الحدود والتعدي على الممتلكات، لكن روح تلك المياه وريحها حركت الأمواج تحت قاربي، وانطلقت بعد أن قطعت المرساة نحو المجهول، فلست صياداً، ولا صاحب غنيمة، لكني مجذوب هائمٌ على وجهه، تصارعه كومة مجانين تريد العتاق والانطلاق..
تعجبني ممارسة المرونة عند المفاوضات، وبناء جسور السياسة الذهبية عند احتدام الأزمات واشتعال المعارك، خوض الحوارات وتحسين العلاقات والوصول إلى التفاهمات .. لعله أجدى من توسيع المناطق العازلة، أو فرض الحصار وقطع وسائل الحياة .. لعلها مسافات ضامنة لحياة أوسع حدوداً وأجدر عيشاً وأجمل تصوّراً من المسافات الآمنة التي لا ترسم إلا الحدود التي لا تُقطَعُ إلا بجواز سفر يُذَكّر باختلاف الهوية كلما لجأنا لاستخدامه .. مع أننا وطن واحد يا عزيزتي ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق