ليس سهلاً أن يأتي ” حزيران ” كل سنة دون أن اضطرب . أتطلّع إلى كل تلك السنوات وتغرورق الدمعة بسرّي على طيش القلب في كل أنحاء المعمورة . لقد كبرت على مهل وببطء وكنت أودّ أن تقفز السنوات أسرع إلى الغد على نافذة مفتوحة على الحب .
آه كم أشتاق في حزيران أن أمسك فستان أمي وأذهب برفقتها لسماع التراتيل . أنتحي ركناً قصيّاً في ذلك المعبد الصغير وأتأمل كيف ينزل الطفل عن عرش الطفولة .
يا رب ! ولا أنجح في النداء .
إنه أصمّ منذ بدء التكوين . ولكن كنت أريد أن أدرّب صوتي على النداء ولم تتضّح وجهة النداء حتى الساعة .
يلمني اليوم طير الحمام الذي بنى عشّه في شجرة الكينا الذي زرعها جدّي ، يحطّ على الواجهة المطلّة على الطريق العام ثمّ لا يلبث أن يطير على ارتفاع منخفض ، أحلّق معه على طول الأسطح وأسلاك الكهرباء المتشابكة . الواجهة مفتوحة لنسيم الريح وللطائر الأبيض ومعه أنثاه يهدل برفق على الحافة الصغيرة ويأخذني بحناحيه إلى بيت جدي المقابل لبيتنا واتذكّر عندما وقعت على صخوره وتهشّم رأسي من تلك السقطة الملعونة وما زال يرنّ في أذني صوت خالتي
ضريبة الإبر والتي لم أكن أتحمّل غرزتها في جسدي .
وعشت يومها لأن يد مار ميخائيل أنقذتني وكان ما زال يعمل عجايب وتنضح صورته بالزيت بين الفينة والأخرى ونزحف جميعاً لنتبارك بالماء والطرقات تتموّج وتتعرّج إلى ما لا نهاية .
ثم سال دم كثير خلال الحرب وبحث كل واحد منّا عن خياراته الوطنيّة . وكان جدي قد بدأ ومنذ الطفولة على تدريب حنجرتي على ما يشبه الغناء وغنيت لأنجو من عزلة الحروب الصغيرة والكبيرة . عشت وسافرت وبرمت الأرض بالطول وبالعرض وتركت أغنيتي تتلفّت شرقاً وغرباً وتقفز من مدن قريبة وبعيدة . ثمّ أعود بعد سنين من المنافي الداخلية والخارجيّة أعود إلى مكاني الأول إلى ضيعتي إلى بيت أهلي وبكيت الذين رحلوا في الغياب القاسي ولملمت السماء والأرض ، الشبابيك والأبواب ، الحيطان والمواعيد المستحيلة ثمّ أخفيت دموعي وخرجت من البيت لأضع وردة على تراب الورد ثمّ لملاقاة المستقبلين المحتشدين في النادي وبعد سهرة عرمرميّة حتى الصباح مع أصدقاء كُثُرْ عند ” الياس ” الجميل . كنت أسابق دقّات قلبي في تلك السهرة الصارخة مع المنتشين بالجمرة والحب والشعر والرقص والغناء والموسيقى والجمال لنجتاز الألم الذي نخرنا طوال سنوات الهجرة وأبعدنا عن ضيعنا وبيوتنا وأهالينا .
ما هذه الحروب العبثيّة التي دفعتنا إلى الرحيل القسري حيث تركنا
العنب والتين والزعرور ينضج لوحده .
ما هذا الوطن ؟ ما هذه الأوطان ؟ أوطان الوهم واليأس والفضيحة ! لم يكن ممكناً الصمت ولم يعد ممكناً في هذه الأرض الطافحة ” بالجعير ” الدافقة بالأوساخ بالقرف والعار . نعيش في محرقة ونبكي وطناً وأوطاناً في زمن القسوة . نبكيه ونبكي أعماراً لنا قتلوها وأسكنوا فيها القلق والحسرة والتهديد والذلّ والخوف والظلم والقهر . ورغم ذلك نتطلّع على أمل ما على حنين ربما ، يأخذنا الى زمن أسطوري جميل .
وأعود إلى ذلك الولد الذي كنته يصعد بي لأتمرّغ في الحقول بين النباتات البريّة ، إلى سنديانة عتيقة تشرئب بين الصخور ، أركض حتى البحر وتطفىء الأرض القمر لتنام النجمة . أطلّ متخفيّاً وراء شجرة السمّاق الأحمر ، أختبىء في جوف كفّي ، أحمل زهوراً بريّة والأرض تجري بي ، مرسومة كنهد مشتعل بالشامات . كم بحث هذا الولد هنا عن القمر الذي وقع في حلم بحر ليلة صيف ، ينحني على الشاطىء ليلتقط موج وماء وزبد وكم أحبّ هذا الولد ذلك القمر والذي كان يرافقه في طريق العودة الى البيت ثمّ تعلّم السفر وركوب الرياح وظلّ يرافقه حتى السماء البعيدة .
شيء واحد كان يفرحه وما زال وينسيه كل شيء ويخفّف عنه وطأة الزمن هو ” الحب ” كان وما زال ممتلئاً بالحب يحبّه ويتجادل وإيّاه يتحمّل الشقاء معه ، ينطفىء وينتظر عيونه . يحب الحب وينتظر عودته .
يا حب ” يا مرضي المريض ” كما تقول الأغنية : إمنحني وهج عينيك ليكون وطني حرّ وشعبه سعيد .
يا حب ، إمنحني الحب فلا أدخل حرباً من هذه الحروب ولا يأتيني خبر سلام أبداً وأغلق بابي على التاريخ وافتحه على نجوم السماء .
المجد للرقّة والمجد للنجوى والشوق والحنين . المجد لبريق العيون . المجد للدموع . المجد للرعشة .
ليسترح هذا العالم ولتأخذ هذه الأرض قيلولة من العنف وليرفع الكوكب رأسه وينظر إلى نجوم السماء وحوله هدوء الليل ونقاء الفجر .
أكنّ كل الاحترام للذين يفكرون أن ألحّ وظيفة يقوم بها الواحد منّا هي خلخلة ايمان المجتمعات البشريّة بكل معتقداتها . الأمل بالتغيير . تغيير الانسان والعالم والايمان بتغيير الحياة نحو الجمال والحريّة والسعادة . لا أؤمن إلاّ بالحب والحلّ هو الحب في هذا العالم الوحشيّ وكلّما أهملنا الحب ازدادت مشاكلنا وجروحنا .
هل الحب قريب إلى هذا الحد أو هو بعيد الى حد الكآبة ؟ ما أجمل تفتحّه الساطع يكبر مثلنا كل مساء كحلم جميل . يا حب ، لماذا جعلتنا نحبك الى هذا الحد ؟ من حق ذلك الطفل مسائلة الحلم في حب مادح دون خوف ولا حياء !
أرى في حزيران أرى كل شيء كبر حتى ” الله ” لم يعد يتدلّى من السماء خفيفاً كالنسيم العليل .
صورة واحدة معلقة على الحائط من سنين ولكنّها لم تكبر . وحدها بقيت كما هي ؟
( أولّ تموز )