مقالات
هَلَع / بقلم رياض الصالح
كنتَ يا صديقي تحدثني وتستفيضُ بالحديثِ عن أحلامك، وذلك المستقبلُ السرابيُّ وقتها.. وماهيّةُ صورته التي تشكّلَت في خيالاتك .. وقتها كانت كلماتك المُتحمّسة تَخُطُّ حروفها في ذاكرتي .. بحُكم أنّك صديقيَ الذي لا بدّ لي من مشاركتك أفراحِكَ جميعَها، حتى لو من قَبيلِ المجاملة وإبداءِ التفاعُل، أو من أجل تعديلِ ما يلزم تعديلَهُ على اللوحة التي تَرسُمها .. فالرأي إن تعدّدَت قنواتُه لتصُبَّ في نفس البحر .. كان أقربُ إلى الصواب .
كنّا وقتها يا صديقي في عُمرٍ يسمحُ لنا بمتابعةِ ” سنانُ يا سنان .. يا خير الأصدقاء .. في الغابة الخضراء ” وكم كانت تُلهِبُنا أحزانُ ريمي ونحن نردِّدُ معهُ ألحانه وهو ” يقطعُ الدروب ويفرِحُ القلوب ولهُ في كل شارعٍ صديق، يَقطَعُ المدى لا يؤذِ أحدًا، يَزرعُ الأفراحَ في طول الطريق..” ها نحنُ لا زلنا نردد سوياً تلك الكلمات في الجزءِ الثاني من حياتِنا التي تبرّأت بالكاملِ عن مسؤوليتها تجاهَ الجزءِ الأول من حكايتِها بعدَ خُذلانِها في نوعيّةِ الحصادِ الذي جَنَتهُ من زراعة تلك الأفراح الواهِمة، ومن خُفوت صوتِ ضحكاتِها الناشئة عن المرح لتعلو قهقهاتٌ أخرى استهزائية ناشئة عن حجمِ الفشل والضياعِ والشفقةِ على مستقبلٍ لم تكتمل فيه معاييرُ الجَودَةِ التي توقعَتها.. فلم تتوافق صورةُ الواقع الحقيقي بتلك الصورة التي لا زالت تتراقصُ في مخيلاتنا التي صرنا ننعتُها بالطفوليّة ..
ثم تأتي لتحاسبني اليوم وكأننا في اجتماعٍ إداريٍّ أخيرٍ لشركةٍ تناقشُ اقتراحَ إعلان الإفلاس تحسُّباً من أيّةِ ملاحقاتٍ أو أحكام .. وأنتَ هوَ الفنانُ صاحبُ الريشةِ، واللوحةِ، والفكرةِ بأكملها.. وأنا لم أعُد لك مثلَ ” سنان ” ولا أتمتّعُ بنفسيةِ مستوى المرح ذاتِه الذي كان يتجوّلُ به ” ريمي ” .. كما أنّنا لم نعُد نعملُ في نفسِ الشركةِ المفلسةِ خاصّتُك .. لذا دعني أطرحُ رأيي بدون خوفٍ عليك من الصدمة .. وأنا أعلمُ تماماً ما يفعلهُ بك الهلعُ من أفاعيلٍ يا صديقي ..في تمزيقِ تلابيب المخيّلة .. ومن ولولةٍ وضجيجٍ وتَهويلٍ يثيرُ جَلَبة الاشمئزاز ويصيبُ الروحَ بالغثيان، ليبَعثِرَ مجامِعَ العقل والمنطق والتفكير السليم .. وهو نفسَهُ بالمناسبَة من ساهَم في تشويهِ صورةِ أحلامك .. وأوقَفَك حائراً متردداً أمام صرح طموحاتك الخيالية وإنجازاتك الحياتيّة ..
لقد ورثنا يا صديقي من تلك الحِقبَةِ الساذجةِ في حياتنا نفسيّةً مترددةً خائفة، فنحنُ خَضَعنا بطريقةٍ أو بأخرى للكثير الثقيل من السيطرة النفسيّة التي أنتَجت شخصيات مهزوزة مرتعِدَة من كلّ شيء .. أسرةٌ متسلِّطَة تُهَوِّلُ الصغيرَة قبلَ الكبيرة.. مجتمعٌ مراِقِبٌ ناقِدٌ بشراسَة للتصرفات .. ثقافَةٌ منغَلِقَةٌ داخل سياجِ العاداتِ والتقاليد .. حكومةٌ متلصصةٌ على الخبايا.. ذاتٌ محاسبة لأي انتهاكٍ للقواعد .. وظيفةٌ مستعبِدة .. احتياجاتٌ مرهِقَةٌ مع قلّة ذات اليد .. منافساتٌ مشتّتةٌ للجهود .. وكمالياتٌ سرقت منّا اهتمامَنا بالأصول اللازِمة .. ونجاحٌ اختُزِلَ في المالِ والشهرة .. والكثير الكثير يا صديقي ممّا ساهمَ في رعشةِ اليدِ التي تسبّبَت بتخريبِ صورةِ المخيّلة الملهَمَة ..
حتى أصبحت مشاعرُ الهلع واحِدَةٌ من مستلزماتِ سياسات العصر وأسواقه الاستعبادية بعد إثبات نجاعَتِها في تحقيق المطلوب .. ورمٌ سرطانيٌّ مُتَضَخِّمٌ مشوِّهٌ لخلايا الحذر الطبيعية أو الخوف الغريزيّ في البشر .. حالةٌ مَرَضِيّةٌ شاذّةٌ عن قواعدِ حياةِ سعادةِ البشرية.. لا تنكر يا صديقي كم كان الهلع يتملك روحك بمجرد تفكيرك في عاقبة أي مغامرة أو حتى تجربة جديدة .. كم حدثتني عن أمنياتك في طرح اختلافاتك الفكرية أمام الجميع بحُريّة.. لكنّ هلعك وخشيتَك من مقاطعتهم لك أو سوء تفَهُّمِهِم وقسوَةَ تعامُلِهم معك تسبّبَ في كتمِ أنفاسك فابتلعت كلامك قبل أن تمضُغَه .. هل تتذكر العام الماضي كيف كانت مظاهر الهلع باديةٌ في تفاصيلِ وجهِك، ورعشةِ كلامك وخفوت صوتك وأنت تحدثني عن مخاوفك بترك وظيفتك الحالية وتمنياتك بإيجاد أخرى أكثر أمناً واحترامًا ودخلاً ولكن باعترافك .. كان ينقصك الجرأةُ والشجاعة ..
لسنا أحراراً يا صديقي في تغييرِ ما نريدُ تغييرَه ..ولا نملكُ زمام أمورنا طالما لا نعرف كلمة ” لا ” ولا نتوقف عن ترديد ” نعم ” ، سنظلُّ عبيداً للهلع الذي فرضه أولئك المنتفعون من هلعنا هذا لنسيرَ كالخرافِ خلفَ الراعي الذي يتصدّقُ علينا بمشاعر الأمن والأمان لِنَسمَنَ في مراعينا ونكون لاحقاً وجبته الدسمة ..فهل سيعلّمنا من خلال كلامِه أو نصائحه أو فضائياته وإعلامه وكتبه ورواياته كيف نعترض .. لا أظن ذلك .. ولا أظُنّ أننا سنُبصِرُ حالَنا ما دام الهلع يستوطن في خلايا الأدمِغة ..
# بقلم
# رياض الصالح