“لايزال الجسد الثقافي يتنفس خارج اطارّ الانتماء لهويته الاصليّة، مُحيلاً الوطن الى فكرة غريبة وموهومّة لاتجد لقيمهّا ومبادئها الانسانية معياراً ثقافياً رصيناً، وهنّا يقفز التساؤل حولّ المعضلة الثقافيّة، هل أنّ جسد الثقافة يعاني ورماً ثقافياً خبيثاً، ام هي ازمة المثقف الموهوم والعاجز عن انتاج فكر حرّ، بأعتبارهِ الساقيّة الثقافية المتوزعة على باق الشرائح المجتمعيّة، فهل عجزَ مرفأ الحضارات والمعاند العتيد بعد كلِ ازمة عن انتاجِ المثقف العضوي الذي يتجاوز ذاتهِ واضداده المتصارعة ويتحررّ عن متلازمة خصوصيتهِ الثقافية التي يتوهم انهّا تشكل الرأي الاوحد والاصح، والذي يتحول بظلهِ الى عاملاً اساسياً في استحداث الازمات وتشعب هويتها الفرعيّة المشروطة بأتساعِ الدائرة المجتمعيّة وتنوعاتها، ام انّ النخرّ مختبئ بأرضية المتبنيات الثقافيّة التي باتت غريبة عن هويتها ولاتمت بصلةٍ لذات الجسد، فلا تجد امامها سوى استجداء الخواء والارتماء بين احضان التغريب، ليبقى بذلك مسلسل الطعن الثقافي بالمُختلف حاضراً بقوة داخل خيمتنّا الثقافيّة الجامعة، وهو بلا شك مايفسر خشونة ثقافتنّا وخطابها البعيد عن روح الوئام، طالمّا انّ المشترك الثقافي يتنفس خارج إطار الإنتماء لهويته الأصليّة، فيتحول بذلك الوطن في ظل هذه الإرهاصات الى مخلوق غريب في ثقافتنا يبحث عمن يداوي جراحه، لانّ الخاسر الابويّ في كل أزمة مهما كانت أسبابها هو الوطن لاغير.
الأزمة الثقافيّة تتجلى ايضاً داخل الذات المتصحرّة للمثقف الذي لايجد الاسناد من المؤسسة الثقافية المدنيّة، ولااقصد هُنا المنتج الحكومي قطعاً، اضافة الى عجزِ بعض المجتمعات عن التفاعل مع الفكر لأن الفكر بطبيعته يرفض الجمود والثبات ويتطلع دائماً إلى التحديث المستقبلي وهذا ما يجعلنا نرى المفكرين والأدباء والفنانين في عصر النهضة الأوروبية اعتمدوا نظريات التجريب الحداثوي، لانهم كانوا يتطلعون بأستمرار إلى عصرٍ جديد ويجابهون بمقاومة من أنصار الجمود وأصحاب نظرية (ليس في الإمكان أبدع اكثر مما كان) ولكننا نرى مجتمعات في العصر الحديث يتحقق فيها العكس لانّ الحركة المجتمعيّة كانت أسرع من ملاحقة الفكر والثقافة لها، وفي مجتمعات أخرى تكون الازمة الثقافية ازمة قياديّة قاصرة ومقصرّة، ولاتقارب المستو، الذي يسمح بازدهار الفكر والإبداع وهو مايعانيه شرقنّا الاوسطي.
اشكاليات الثقافة العربية وتمزقاتها الفكريّة كثيرة، منها مايتعلق بطرق التفكير التقليدية، المسندة بثقافة لا تحترم العقل ولاتتسامح مع الاختلاف في الرأي الذي يقف على أرضية خصبة العدائيّة مابين المتحاورين حول هموم العقل العربي في وقتنا الحاضر، وعلى الرغم من أن التعريفات الجدليّة العديدة والمحتكرة لمفهوم الثقافة في وقتنّا الحالي، بأعتبارها من أكثر الكلمات تداولا وأشدها غموضا، واعمقها جدلاً حول تشخيص معين او مفهوم متفق عليه دون تخطئة الآخر، لذلك احياناً لايبقى امامنّا غير العودة لجذورها التأريخيّة فيعرفها علماء الاجتماع وقبلهم الانثروبولوجيا، بأنهّا اجماليّ المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقيم والعادات، أما خصوصيّة الثقافة بمعناها الانساني الحرّ، فهي صقل الذهن والذوق والسلوك مروراً بتنمية الشخصية العدائية وتهذيبها، ولكي تصل لسقفها الاعلى بالمثاليّة فسيكون مقاسها الارتفاع بالتكوين العقلي والروحي والأخلاقي للإنسان وفهمه الخاص للعالم وللآخرين، فكلمّا وصلت الثقافة إلى درجة الاندماج والانصقال بالشخصيّة تكون قد حققت هدفها بأعتبارها الدالة الاكتسابيّة التي التميز الجماعة الانسانيّة داخل المكون البايولوجي العام لأن الإنسان وحده هو الذي يعتنق الأفكار والقيم والمعرفة.
العقل العربي كانّ له ايضاً دوراً اشكالياً ثقافياً امام موجات التصادم الحضاريّ، حينمّا تطلب الامر، تحديد الموقف إزاء التقدم العلمي والتكنولوجي وهذا ما حدث منذ ظهور رواد الفكر العربي الحديث من أمثال جمال الدين الأفغاني وطه حسين، وايضاً المفكرين امثال عابد الجابري ومحمد الرميحي وأمين معلوف وغيرهم، لانّ تواطء الاضداد كمايسميه المفكر علي حرب، يسلب ارادة العقل العربي ويخنقه مابين تابوات الدين والسياسة ومابين اجترار الماضي واعادة تدويره، تلك الثنائيات القاصمة لظهر الحداثة والهادفة الى اعادة انتاج الانغلاق الفكريّ، اي قتل القيمة الثقافية داخل راس المثقف بأعتبارها البذرة الحداثويّة القادرة على انتاج عقل حرّ، لأن أوضاع الثقافة العربية المتهرئة تقتضي الاهتمام بنوع العقل الذي يراد تكوينه للإنسان العربي هل هو عقل جامد يدور في حلقة مفرغة ولا يسير في اتجاه التطور والتقدم، أم هو عقل قادر على تقديم حلول لمشكلات المجتمع وهدفه تحسين نوعية الحياة والتعامل مع الحضارات بإيجابية ومن موقع الندية وليس التبعية والتفاعل مع الثقافات والحضارات العالمية دون خوف أو تردد.