مقالات
الجوهر .. بقلم # رياض الصالح
أمام البحر .. جلس مستئنساً بالنسيم البارد .. يخفف حدة اشتعالاته .. و يجاري رقصة اللهب التي تتلاعب في دماغه يمنة و يسرة .. فقد كانت أجواؤه النفسية مشبعةً بالوحدة .. متلبدةً بالأحاسيس .. مستعدةً لهطول زخاتٍ من الذكريات .. حتى أجراس حنجرته كانت تتأهب لرعدات النحيب .. و عواصف المراجعات المدمرة ..
توجهت نظراته نحو أسراب متدفقة متتابعة من أمواج ذلك البحر العريض .. أمواج تدفنها أمواج .. تصنع مشهداً ثابتاً لا يتزعزع .. طبع في عينيه مثل لقطة صورة فوتوغرافية .. مشهد متحرك هائل .. أمواج تتسابق .. بحر عميق زاخر .. صوت ارتطام الموج بالصخور .. كل هذا .. يقف صامتًا.. منزوياً .. تلك اللحظة .. مقيداً بإرادته الدماغية .. مطواعاً لرغبته ببقاء كل شيء .. على تلك الحالة ..
دار في طيات دماغه حوارات تتنافس في كثرتها مع تلك الموجات .. وهي تتلاحق متسارعة لوأد بعضها بعضًا .. حتى سكنت بحركة تحاكي وقفة تلك اللقطة ..
لمعَ حينها تساؤل غريب اللهجة .. عجيب الطرح .. لا يتوافق مع ما يعرفه الناس عن البحر .. و لا يتناسب مع تراجيديا جلسته الآنيَّة .. حتى أنه تعجب من جرأته في بعثرة ذكرياته الحوارية مع هذا الكيان الضخم .. صاحب القلب الفسيح .. و النبض الذي لا يتوقف .. فكم قضى من الأوقات المشابهة .. و كم ذرف من دموع الوجع .. و كم حبس أمامه النشيج .. و أدمن في محرابه .. صب الدموع ..
ترى .. لماذا تهمس الخلائق بأسرارها و همومها له .. لماذا تقذف بذكرياتها في مياهه .. هل تنتمي تلك الدموع المالحة لنفس تركيبة مياهه .. لماذا .. و هو الجمال الغادر .. و الملجأ المغرق .. و العميق المظلم .. و الواسع المُضَيِّع .. ماذا يرتجى منه يا ترى .. إنه مقبرة ليس لها قرار .. و القابع فيها ليس له فرار .. مليئة بهياكل الأنين .. و رفات الشكاوى .. و بقايا الندم .. و الرسائل الغارقة التي لا يُسمَعُ لها صدى..
و ما هي هذه الموجات المندثرة على شاطيء الحقيقة .. و كأنها مراكب تحمل على ظهورها قضية كل شاكٍ باكٍ متوهمٍ بجدارة البحر في حلِّ القضايا .. و لا يعلم أنها أرسلت نحو غثاء الفناء .. مساكين .. أولئك الحيارى .. متوهمون حد الجنون .. لم ينتبهوا لنهاية الماء الزلال المتدفق بتسارعه الواهم نحو البحر .. مَطَرٌ أو نَهَر .. يترك مساراته الواضحة .. و يندمج في الضياع.. بعد أن استنسخ فيه ملوحته .. ليتذكر .. أن البحر .. لا يقبل اختلاف اللون أو الطعم أو الرائحة .. فمن لجأ إليه .. فإنه سيتناثر رغم أنفه .. و يضيع بين قوافل التائهين التي لا تنتهي و لا تنقطع ..
انتبه حينها من غفلته .. تحرك وجدانه الغافي .. احتقنت براكينه الخامدة .. و فار التنور بصيحة تسمع الغرقى .. فاستفاقت خلايا دماغه التالفة .. و ارتعش الهذيان خوفاً من حمم الحقائق .. و مفاهيم الواقع .. و القرارات الشجاعة .. بالتغيير .. و شحذ العزائم .. و الانطلاق .. نحو النجوم ..
حينها .. لملم دمعاته الساخنة .. فدماء روحه أولى بها .. و استرجع ملفات ذكرياته .. يملأ بها رفوف دماغه العاقل .. لتكون مراجع هامة .. لمساره الدقيق .. في رحلة التحليق .. نحو نفسه العزيزة .. و انصرف محتضناً لها .. متكئاً عليها .. مربِّتاً على ظهرها .. فقد حان وقت البِرّ و التقدير .. و شحذ الضمير .. لخوض التحدي الكبير .. في فهم الجوهر و اختيار المصير ..
# بقلم
# رياض الصالح