مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية #عصفور_وجرادة النصف الاول
كان في سالف العصر و الأوان وفي مدينة من مدن ذلك الزمان رجل فقير يلقب ” العصفور ” يعيش مع زوجته الملقبة ” الجرادة ” في كوخ صغير في الضواحي , كانت الجرادة مستاءة جداً من كون زوجها عاطلاً عن العمل فكانت تقوم بترقيع الملابس لتحصل على بعض المال
و في أحد الأيام خرجت الجرادة للسوق ثم عادت ساخطة على حال زوجها و خاطبته قائلة : ما هذا الكسل يا عصفور , اذهب و ابحث عن عمل فلو كنت عاملاً لما احتجت أنا إلى ترقيع ملابس الآخرين , فقال لها متململاً : و كيف يا جرادة في هذه الظروف الصعبة , فقالت : الأمر سهل جداً , فقد مررت في السوق برجال يرتزقون، و بطريقة أسهل ممّا تتصوّر..
و أشارت المرأة على زوجها أن يأخذ كيساً مليئاً بالرمل، ويدعي أنه يعرف الغيب، فسيتجمع النّاس حوله أفواجاً يريدون أن يروا حظهم ،وما عليه إلا أن يجعل على الرّمل خطوطا , ويخبرهم بما يراه .أعجب العصفور بالفكرة، و قرّر أن يجرب , فأخذ كيس رمل كما أشارت زوجته ،و اتجه إلى السّوق، وصاح في القوم : بدرهم أقرأ لكم طالعكم ،أخذ الفضول الناس، فواحد تلو الآخر بدئوا يتجمعون حوله ..
دخل عراف على كبيرهم، و قال : سيدي هناك من يدّعي أنّه يضرب الرّمل وهو ليس من جماعتنا، يجلس في وسط السّوق، و قد تجمّع حوله جمع غفير من الناس , و أنا أخشى يا سيدي أن يسلبنا رزقنا ،و يأخذ مكانك , فانتفض كبير العرافين من مكانه و قال مزمجراً : و أين هو ؟
برح مكانه، و راح يراقب العصفور عن بعد , و كان هذا الأخير قد بدأ يرتاح للوضع ويثق في نفسه , و كانت السّعادة بادية على وجهه و هو يرى الدّراهم الفضّية تنهمر عليه , وبدا النّاس مقتنعين بنبوءاته .
و كعادة ذلك الزّمن كان النّاس متحمّسين لهذه الأمور , بل مازالت هذه العادة إلى الآن , عندما رأى العرّاف براعته في ضرب الرّمل ،والتفاف النّاس حوله،عزم على إختباره . فراح يفكّر في طريقة لكي لا يشك في أمره ،و بينما هو كذلك إذ وقعت عينه على عصفور صغير يطارد جرادة، و هنا ترك الجرادة تمرّ، و تعرّض ببرنسه للعصفور فعلق فيه .و سار حتّى وقف أمام العصفور الذي ظنّ أنه يريد معرفة حظه، ففتح كيس رمله , لكن كبير العرافين استوقفه قائلاً : لا .. لا , لم آتي لهذا السّبب , لكن أعتقد أنك يا عزيزي ترى أنّ هذا العمل مربح , كان العصفور يحدّق في الرّجل دون أن يفهم ما يقصده , فأضاف قائلاً : أنا المشرف على هذه المهنة في السّوق , ولقد دخلت منطقتي ،وقمت بالعرافة دون إذني ،فإنك تستحقّ العقاب , ذعر العصفور لسماع هذه الكلمات ،و لعن زوجته الجرادة . هدّأ العرّاف من نبرته وقال : لكنني سأخضعك إلى اختبار، فإن نجحت فيه عددتك عرافاً كفؤاً و دعوتك للانضمام إلى جماعتي , و إن فشلت .. فسأشكو أمرك إلى صاحب السّوق ،وسيحاكمونك بتهمة الشّعوذة .
لم يستطع العصفور أن ينطق كلمة واحدة لشدّة خوفه , فلوّح كبير العرافين بالبرنس في يده قائلاً : خمّن ماذا يوجد داخله , دارت به الأرض ،وامتقع لونه فكّر في زوجته التي أوقعته فيه هذه المصيبة : وتمتم : لولا الجرادة ما وقع العصفور , عندما سمع الرّجل ذلك إنعقد لسانه من الدّهشة , وهز البرنس فخرج العصفور ،وطار . نظر كبير العرافين إليه وهو يبتعد، وقال بانفعال : أحسنت .. أحسنت , لقد تفوقت على كل تلاميذي , و إكراماً لك سأعطيك مكاناً في مجموعتي في السّوق .
فعلاً كان حظ العصفور رائعاً ،و حصل على تقدير كلّ العرافين , و كان يعمل من شروق الشمس ،حتى إذا حان الغروب اجتمع كل أفراد المجموعة إلى كبيرهم ، ليقتسموا ما يجنون من مال و كان وفيراً , وإفتخرت الجرادة أشد الفخر أمام جاراتها بآرائها الصائبة . و قد تركت ترقيع الملابس و ارتاحت في بيتها ،و ورغم أنّها عاقر لا تنجب , إلا أنّ زوجها لم يتركها،و لم يتذمر من حالتها , و كان العصفور رجلاً بسيطاً إلى حد الغباء , بينما لم تكن الجرادة امرأة حادة الذكاء و لكنها كانت مدبرة جيدة .
استتبّ الأمر للعصفور وقتاً يقدر بالشهور لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفِنُ , ففي صبيحة يوم بارد أعلن الملك خبر سرقة جواهر ثمينة من خزانته، و استدعى كل عرافي تلك البلاد ليكشفوا له بما يدّعون من خوارق عمن ارتكب هذه الجناية , و قطع الملك في تلك الصبيحة كثيراً من الرؤوس , و هدد بذلك كل عراف لا يأتيه بالخبر اليقين , حتى جاء الدور على كبير العرافين ذاك و كان لا يعرف شيئاً , إنه الآن في ورطة،و لكن له من الخبث و المكر ما يمكنه من الخروج منها كالشعرة من العجين ،قال للملك أنه لم يعد كبير العرافين منذ وقت طويل , وأن هذه المهمّة ,تم إسنادها للعصفور ،لأنه أمهرهم وأكثرهم دراية بالعرافة .
كلنا نرغب أن نعلم كيف سيتصرف العصفور , هذه المرة ليست ككل مرة , إنه الملك و العبث مع الملوك أمر لا تحمد عقباه , و كان الرجل يعلم أكثر من غيره أنه لا يملك أي نصيب من هذا العلم , لكنه أراد أن يناور و ليكسب وقتاً و لو كان قصيراً في الحياة , فأوهم الملك أنه قادر أن يأتيه بضالته , على أن يسكنه أحد غرف القصر ،و يمهله شهرا ليجد الحل ،و يأتيه بتسع وعشرين دجاجة سمينة و ديك , يا ترى ماذا سيفعل العصفور ؟ وما هي الحيلة التي يدبّرها هذا الرجل البسيط ؟
المشكلة أنه لا يعرف شيئا عن القصر،وعن اعوان الملك،ليس له خيط يمكن أن يبدأ منه ،و هو يعلم أنه سيموت عاجلاً أو آجلاً فأراد أن يمنح لحياته ثلاثين يوماً أخرى يتناول في كل يوم منها طبقاً من تلك الطيور ،ثم الديك الذي سيتوج العشاء الأخير , مسكين الملك ،إعتقد في قول رجل أقل ما يوصف به هو الغباء ،لكن للقدر أسراره التي لا نعلمها …
كان من سرق جواهر الملك عصابة فيها تسعة وعشرون فردا وزعيمهم،وكان من ضمنهم جارية هي التي دلتهم على المكان ،وفتحت لهم سردابا يؤدّي للقصر اخبرتهم الجارية بحكاية عرّاف ماهر إسمه العصفور،فانزعج الزّعيم وأمرها بالتّجسس عليه ، كان العصفور يتناول عشاءه ،وعندما إنتهى ،حمد الله، و قال : هذا واحد من الثّلاثين قد وقع , أحسّت الجارية بالخوف ،واعتقدت أنه قد تفطن إليها ، فعادت إلى الزعيم مضطربة ،وقالت أنّ أمرها قد إنكشف ،وعليه أن يرسل شخصا آخر عبر السّرداب .
لكن الزّعيم لم يصدّقها ،فلا أحد يعلم بأمرهم،, فأرسل في الليلة التالية عضواً آخر ليتجسس على العصفور،, فسمعه يقول : هذا ثاني الثلاثين قد وقع ,فرجع ،وأخبر الزّعيم بما سمع , ليرسل ثالثاً , وسمع نفس ما قاله الآخران : هذا الثالث من الثلاثين قد وقع , و سيطر الرّعب على أفراد العصابة ،و هم يتداولون عليه واحداً تلو الآخر . حتى أتى دور الزّعيم، و قرّر أن يذهب ليرى ما يحدث.كان العصفور هذه الليلة قد أنهى عشاءه الأخير المكوّن من الدّيك ومرّت الثلاثون يوما ،و انتهت مهلته، و غداً سيقُطع رأسه لا محالة , قال و هو يتنهد بحزن : هذا رأس الثلاثين قد وقع , ذعر زعيم العصابة، و تراجع خطوات حذرة , لقد تعرّف العصفور عليه , إنّه في موقف لا يغبط عليه، و لا يمكن أن يخلصه منه أحد , إلا إذا أراد أن يتصرف بكياسة , و يفدي حياته …
يتبع …
من قصص حكايا العالم الاخر