مازال الخريف يمشي إلى الشتاء. ومازال الشتاء يثغو عند سكك الحديد الباردة.
ومارسال هو مارسال. صوت هادئ على الركح أو أمامكَ في المقهى مطعّم بشال أحمرَ.. وغضب!
يحرّك أسئلته العميقةَ بعينيهِ ويشدّها إلى الدهشةِ بحاجبيهِ فتنثال في فنجان القهوة تدور وتدور “حول أحد عشر كوكبا”
الجداريّةُ وأندلس الحبّ. أمّا عن المعلّقات فمثل ملاحظة يخطّها الوحي على هامش الورقةِ ويغيب في الزحام فيتحسّس العود بأصابعه ركنَ الطاولةِ: قمقم بلا مارد!
يأتيني صوت جدّتي البعيد من جزيرة الأحلامِ.. جزيرتي جربة بشالها الأصفرِ المحبوك من صوفٍ خشن على كتفيها وأنا أستمعُ إليه:” هذا مارسال خليفة يا أولاد” عندما كنت مرّة “طفلا صغيرا”!
لا شيء يشوب هذا الصفاء. لا “طيّارة كبيرة” ولا “خيطانها”. لا شيء سوى سماء باريس الرمادية وابتسامته من مركّب العطفِ الفرنسيّ الذي يسم نصف المقهى باسمهِ!
ثمّ تمشي.. تمشي عمشيت وجربة في حديقةِ النباتاتِ الكبيرةِ قبل أن تفحّ الحكمةُ من خرير الماء الصامت: إنّها آثارُ الغابرين! هل سيمشي أحد في حدائقنا قبل أن “يصبحوا” من الغابرينَ؟ هل لنا حدائق؟ هل نكون من الغابرين الذي يمرّ على أمجادهم غابرون يرسمون طلل الغياب لهم؟ هل مجد واحد ينفخ في ملحمتنا مفتاح “صول” للذكرى أو للذاكرة؟
ينثر أمام ورق الأشجارِ المصروعِ سؤالهُ المبشور من ليمونِ اللحظةِ. ولا ينسى الناي أن يبعث بعض خيوط الموسيقى لتفرّ من الحلق. أيّ فتنة أن يكون ترتيب مخارج الحروفِ الأوّل من “الحلق” فيحملَ أوّل معاجم العرب سمة “العين”؟!
أفكّر في هذه التوليفةِ بين الخليل بن أحمد الفراهيدي وبينه بينما أغرق في الاستماع.
ينصتُ بوقار يوثّب كلّ حوّاس الكلام الطافر عندكَ فترتبكُ الحكاية وتسترسلُ “إلى الذهاب المستمر إلى البلاد”
هذا مارسال الذي كبرتُ على صوتهِ في بيتنا حاضرا مثل الخبزِ. يكفي أن تحبّه جدّتي لنحبّه تباعا نحنُ أحفادها حين تعدّ “نار الصباح”
لا شيء من يناير سوى نصف يوم جميل خبأته لحزيران. بعض من الذكرِ الحكيمِ وصورة رصاصية الغيمةِ تشنقُ الذكرى على شرفِ الكاريكاتير الساخرِ من الزمنِ ومن الآفلينَ منهُ.
تأخّرت هذه المعايدة مثلما تأخّر اللقاء. غير أنّه السفر.. شأن الشعر قطعة من العذاب!
وهو هو.. “متل الشتي نازل على حزيران”
سنة سعيدة.
@michel.kafas