هاتان صورتان لسيدتين فلسطينيتين بينهما ألفان وثلاثةُ وعشرون عاماً ، في الصورة الأولى ، يسعفنا الفنُ الباروكي في انتاج سردية تاريخية لفعل عنيف : السيّدة العذراء مريم تتأمل وجه ابنها يسوع المسيح بعد إنزاله من صليبه ، نحنُ بإزاء سيّدةٌ وقور تكتمُ فجيعة قلبها بغشاء رقيق من الكبرياء ، تلك في الأقل نظرةٌ فنان عصر النهضة الذي رسم اللوحة ، ربما تقادمُ الزمن جعل من الفجيعة مُشذَّبةً من وحشيتها ، أراد الفن أن يتدخل في ابراز الحزن الأنيق الهادىء ، تلك لعمري ، رسالةٌ مُتضمَّنة في ثنايا اللوحة :شابٌ ينامُ بهناءةٍتحيطُ به ذراعا أمه ، ولولا بقع الدم على الجبين لبدا للناظر شاباً ينام بينما ثمةَ شابة تراقبه بحنان مكتوم ، الشاب مغمض العينين كمن غلبتهُ سِنَةٌ من النوم ….. هنا أفرغُ الصلبُ ومفهومه من تاريخيتهما لصالح السردية الأنيقة للرسالة التي تحضُ على التسامح حتى في رسم التفاصيل الجارحة.
بعد ألفين وثلاثةٍ وعشرين عاماً ، يرسمُ أحفادُ من أنتج اللوحة الأولى وسرديتها ، بمسيحها ومريمها ، سرديةً أخرى لمريم فلسطينية ومسيحها غير الراغب في النبوّة .
مريم العصر الرقمي ومسيحها ليست كمريم العصر الروماني ومسيحها ، فعلت الكاميرا فعل مؤرخ ينطوي شغفه بالسرد على متانة أخلاقية : فالعصر الرقمي أظهرَ لنا أماً من لحم ودمٍ وذهول ودهشة لم تبدُ على سميَّتها الأولى ، كانت السردية الأولى مُخبأةً تحت ألوان الزيت والكانفاس ، ولو أنّك تأملت الأصابع الحذرة لمريم الحقيقية لرأيت ، أماً تُحاذرُ أن تلمس وجه الحبيب ، لئلا يستيقظ ، أو أصابعُ أمٍ تحاول أن تفرقَ بين نومٍ حقيقي وموت حقيقي ، أم تريدُ أن توقظ الغياب الناجز الحتمي والحقيقي وتحاول أن تستفهمَ من العينين نصف المغمضتين عن بقية الخبر ؟ هذه ال ” المريم ومسيحها القتيل ” تختلف عن الكف التي تبدو رخصةً ومُترفةً وتستكين بوداعة أرستقراطية حول رأس الابن الذي خلا وجهه من صدمة الموت الحقيقي التي بدت على وجه مسيح العصر الرقمي .
مالذي يجعل بلاداً تكررُ مسيحها ومريمها ، مرّةًَ على هيئة أنيقة ومرّة على هيئة جريحة .
