بوقاره الشديد، و هدوءه المعهود، و عيناه الجاحظتان نحو المسرح، يجلس صاحبنا على كرسيه بعد أن لبى دعوة الحضور إلى ذلك الفرح .. كانت كلمات الأغنيات التي تتناثر في الجو .. تتمثل أمامه حروفاً راقصة مهتزة .. تتلاعب في فؤاده كلما انتقل المطرب من أغنية إلى أخرى .. و من شعور إلى آخر ..
إنها الكلمات المزينة بالألحان .. و المتوشحة بالصخب العالي .. و تفاعل الراقصين .. تجلب له نفسية غريبة .. و تستحضر مزاجاً يبرر تردده المعهود و اضطرابه العنيف كلما دعي إلى المشاركة في عرس أو حضور مناسبة ..
يبتديء إحساسه بالتقصير ينمو و يتعاظم .. و خيبته الذاتية بنفسه تتصدر موكب الأفكار القادم عبر أثير الأجواء .. كل المتضادات و المتناقضات تتقاتل في دماغه تلك اللحظة .. حب الناس و كراهية المشاركة .. إظهار الفرحة و كتمانها في آن واحد .. الجمع بين ملامح الوقار المُدّعى في قلب يتمنى الرقص المجنون ..
يظهر على حلبة الرقص في تلك اللحظة .. فتىً مجنون .. كان يرقص بهستيرية .. و يضحك بعفوية .. و يتخبط أثناء هزه لأردافه السمينة و بطنه الضخم .. لقد كان يشبه ذلك الفتى المتربع .. و الخائف.. و المستتر خجلاً .. في زاوية مخفية لتلك الروح التي تهوى المراقبة من بعيد .. و تخشى لفت الأنظار .. و استجلاب عيون المحيطين ..
لماذا يهوى الناس الرقص.. سؤال خطر على باله تلك اللحظات .. لم يكن يسعى لصياغة السؤال بصيغة التعجب .. و لا حتى صيغة الاستفهام أو الاستنكار .. و إنما أراد استحضار العتب الذاتي على نفسه الصادّة عن الفرح و استجلاب السعادة .. و محاولة فهم رغبته الجامحة في حبس ذلك الجنون الهائج في أعماق داخلية لا يعلم عنها حتى الجن فوق البنفسجي ..
لقد صاحبته الجدية طيلة مراحل حياته .. و تعاظم الوعي لديه حتى احتل بلاده الروحية جميعها .. و أعلن فتح السجون لكل من يخالف طبيعته الكئيبة .. و حزنه الدفين .. و فهمه العميق ..
فكان الرقص أحد أولئك الأسرى المقهورين .. فقد تعود صاحبنا على إضافة جملة مكسورة كلما حاول هذا المصطلح أن يتفاوض معه .. من أجل إطلاق سراحه.. فتراه مرة يناديه مستهزئاً .. بالرقص على الجراح .. أو الرقص على الألم .. أو الرقص على الخيبة .. فكان المتهم يقف مصدوماً حائراً لا يستطيع الرد .. فالحجة التي تساق بليغة مفحمة .. و الواقع الحاضر على جميع الأصعدة النفسية و الاجتماعية و حتى الوطنية لا تبشر بخير و لا تستجلب الفرحة .. فما حجة الرقص إذن .. و هو في شكله الحاضر في الذهن مجرد حركات بلهاء يتلوى بها الجسد كما يفعل من تصارعه روحه و تلكمه نفسه مراراً و تكرارا..
هذا الوعي المفرط .. كان يسحق صاحبنا من الداخل .. تساءل .. إن كان موقفه هذا صواباً أم مجرد خلل نفسي يصاحب الوعي المفرط .. و هل من الصواب أن يكبت المرء رغباته الجنونية لمجرد عجزه عن تغيير واقع .. ليس له في إنشائه أي تدخلات أو تقصير .. أم أنها مجرد احتجاجات تساق لتبرير ذلك الخلل في النفسية ..
ثم ماذا فعل الحزن .. في تغيير الواقع .. كان عبارة عن مواجهة الظروف القاسية و الجو المحيط المكئب .. بإضافة لون قاتم يتناسب معها .. تساءل حينها .. عمن كلفه ليصبح رساماً متخصصاً في عملية التلوين .. و لماذا يكون هو المبادر في صبغ ذاته تضامناً مع تلك الظروف التي لم يتدخل أصلاً في رسمها أو خط معالمها .. و لماذا يفترض أن يحمل اللوحة تذكاراً أينما ذهب و كأنها دعوةٌ للتعميم على خلق الله من الذين يرون الحياة جميلة بأبسط ما فيها .. و لو كان مجرد ترقبهم لفجر الصباح ..
هل حقاً تنبع السعادة من داخل النفس .. و هل حقاً .. يستطيع المرء رصد الفرح في اللحظة الخاطفة .. و هل حقاً .. مصدر هذا الحزن .. طفولة بائسة .. أو ظروف قاسية .. أو صدمة مفاجئة .. أم هو اكتئاب طاريء .. يزول بالإصرار على التخطي .. لكن ما يحصل معه في الأفراح .. أعمق من كل ذلك ..
لا بد أنه الوعي .. هذا الوعي الذي يشكو منه كل أولئك الذين تثاقلت رؤوسهم بالأفكار .. و تناطحت أفكارهم المجنونة المطالبة بالتمرد على الحظيرة .. و على القطيع .. و على كل سجن يمنع حريتها الموعودة .. و كأن الرفض الممارس على الرقص .. نشأ من كون تناقض الرقص الهمجي المجنون مع سمتِ العقلانية الوقور الهاديء .. و لكن .. من الذي افترض الهدوء على أولئك الواعين .. أليست الأفكار تتراقص في أدمغتهم .. و البركان الهائج يسكنهم .. أم أنهم يسعون للاحتفاظ بهذا الهيجان في الأدمغة .. و يخشون تفريغه عبر الجسد .. و إلا سيعانون من نقص حاد في مشاعر الجنون التي تغذيهم بالأفكار الثائرة .. ربما ..
عادت مشاعر العتب الذاتي مرة أخرى .. تذكر أن الرقص اليوم يعد فنّاً راقياً معبراً .. ذو رسالة تعبر عما يدور في الخَلد و النفس و الروح .. عبر ألحان .. و أغنيات .. تستخدم الجسد كطابعة تكتبها .. و ترسلها لأولئك المتذوقين .. الذين استطاعوا الدمج بين رقص الأفكار و رقص الأجساد ..
لم يتوقف صاحبنا عن رقصه الداخلي إلا عندما تقدم إليه ذلك الراقص المجنون ليصافحه بحراره .. و يقبل وجنتيه .. و يدعوه للمشاركة في فرحة الرقص .. لكنه مع ذلك .. و بكل تزمت .. رفض و بشدة ..
# بقلم
# رياض الصالح
