مقالات
دوّامة الخيول .. بقلم رياض الصالح
وكما هي عادته دائماً عندما يسترِقُ النظرة الخاطفة .. ليجدَ نفسه مسروقاً في متاهاتها .. مخطوفاً في أعماقها .. مقيّداً في زواياها و أوتادها .. حتى تبدأ خواطره المتعبة بالتزاحم على المقاعد الأمامية في قاعة دماغه .. تستعد لبدء المحاضرات ..
ضجيج مرتفع .. و أصوات غير متناسقة .. ضحكٌ و صراخ و عتابٌ .. صوتُ زحزحة المقاعد .. و ترتيب الدفاتر .. و تبادل الأمكنة .. حتى تقف الفكرة الصارخة .. لتنهي الصخبَ المحتوم .. و تشترط الهدوء .. و تبتديء الهمس .. و تنسج الخيال ..
لم يتصور أن تبدأ المحاضرة في غير وقتها .. فيستدعى أفرادها في مناوبة فجائية .. لمجرد أنه شاهد أماً تمسك طفلها خشية السقوط عن ظهر حصان من لعبة الأحصنة الدوارة .. أو لأنه شاهد عجوزين .. رجل و امرأة .. يركبان على نفس اللعبة .. و يلتقطان الصور .. بفرحة غريبة .. باديةٍ على المُحَيّا ..
أدركت الآن يا أمي فحوى الحياة .. و عرفت حاجتي ليديكِ الداعمتين .. و ابتسامتك البديلة عن تجهُّم ثغري وقتها .. و كأنك كنت تدركين حجم السذاجة الطفولية المسيطرة على تصرفاتي يومها .. فتضحكين في نفسك .. و ترسلين الإشارة تلو الإشارة .. لكن مثلي وقتها لم يكن يفهم الإشارات و لا يتقن فنون القيادة ..
ما كان يعرف ذلك الصغير أن الحياة دوارةٌ مخادعة .. متأرجحةٌ بأساليبها .. متلاعبة بأنغامها هكذا .. لقد أسقيته يا أماه ترياق الطمأنينة حتى ظن أنها آمنة .. تعوّدَ على وجود كفٍّ لك على خصره .. و كفّك الآخر على رأسه .. لم يدرك وقتها أنك كنت تعلّميهِ حينها .. شيفرة فك الرموز .. و تعاليم الانتباه .. و قواعد الحذر ..
لئيمةٌ هي الحياة يا أمي .. زائفةٌ كخيول تلك اللعبة .. نركض في مضمارها بلا صهيل .. و ندخل مداراتها بلا جموح .. و نختار خيولنا بحُريّةٍ مقهورة .. و لا نختار مسارات الظروف .. كما الأجرام نسبح في أفلاكنا المؤبدة .. و سجوننا المُقَيّدة .. و حظوظنا المعاندة ..
ترفعنا فلا نتمتع باستقرار .. و تطيح بنا فلا نحوزُ غير فزع السقوط .. و دهشة التحوّل .. و جنون التغيير .. فكلما تأخذنا شوطاً .. عادت بنا لنفس المكان .. و لكن لغير زمان .. بعد أن سلبت منا ما كنا نظن امتلاكه .. فإذا بنا عندما نعود .. نفتقد ما كان .. و نمضي إلى ما يكون .. حتى ينتهي الوقت ..
و أي حياة مخادعة هي .. هذه التي تخلّد نفسها بجموع من المؤقَّتين .. لقد عرفت أن كل ما فيها يؤول إلى نهاية يا أماه .. مهما طال الزمن .. و مهما غرّنا البقاء .. فلماذا نرهقُ أنفسنا بتعلُّقاتٍ غبية .. و آمالٍ ساذجة .. و طموحاتٍ تزول .. و احتياجاتٍ رعناء .. و رغباتٍ مختلّة ..
عرفت الآن معنى الخلود .. يا أمي .. همُّ الإنسان الدائم .. عرفت لماذا يصنع الإنسان أفعالاً .. و يبني مبانٍ .. و ينحت تماثيل .. تحيا لمدة أطول من حياته .. و كأنه يبحث عن خلوده الواهم ..فينسي أن اسمه مجرد لغو حديثٍ لمجالس هو عنها غائب .. أو حبر ورقٍ في كتابٍ مفقود .. حتى لو حوّلتهُ الذاكرة إلى أسطورة .. فمن ذا الذي يؤمن بصدق الأساطيرِ إلا جاهل .. و من يصدّقُ أوهام المشاعر المتعصبةِ إلا ناقص .. أو يجاملُ مصداقية التاريخِ إلا مغبون .. فالحقيقةُ تبينت لي أنها متعددة الوجوه .. و لستُ وحدي راكبَ حصان .. و ليست اللعبة من ممتلكاتي .. و كلنا مؤقّتون .. بكلّ ما فينا .. و كلّ ما حولَنا .. كما هو وقتُ اللعبة .. و مبدأ تشغيلها ..
عرفت يا أماه .. كيف يحاول الإنسان تناسي آلامه .. و كيف يخفي صراخ أوجاعه .. فيشتغل بألحانٍ مرحة .. و يضفي لأجوائه نغماتٍ مطربة .. و كلماتٍ متفائلة تحاول أن تكتم بغربالها محاكم الحقيقة و قصبات الشنق .. و ابتهاج المتفرجين أو أحزانهم .. حتى تنتهي حكاية جيل .. و تبدأ مصيبة جيل آخر .. و الأحصنة تدور .. و تدور .. و تدور بنا الدوائر .. في رحلتنا نحو سراب ..
ما أجمل العجائز و هم يتضاحكون بعدما عرفوا كُنهَ الأسرار .. و أتوا إلى نفس المكان للاستذكار .. تساءلت لمَ ؟ .. فقلت في نفسي .. هذا وقت السخرية .. و ما أعمقها من كلمة .. فكم عاشوا كشخصيات هامشية في مسلسل سخرية القدر .. و بنادِقَ مجهولةٍ على رُقعَةِ الظروف .. و جاء وقتهم الآن .. ليسخروا هم بدورهم من أنفسهم .. بعدَ أن ملّوا اللعب .. و اللعبةَ و الألاعيب .. و كيف تعاملوا مع سخرية الحياة بجِدّيةٍ متناهية .. و استعداد دائم .. جاءت الفرصة ليعوضوا سنيناً من التجهم .. و يمحون خربشات الهموم و الأحزان .. و يقهقهون الآن بلا ملل .. و بلا حسرةٍ .. فلم يعد للضياع وقت النهاية معنى .. نهاية لعبة دوامة الخيول .. أو دوامة المجهول .. بالنسبة لهم على الأقل ..
# بقلم
# رياض الصالح