مقالات

الْمُتَنَبِّي: الطَّويل / أ.د. لطفي منصور

وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى
عَدُوًّا لَهُ ما مِنْ صَداقَتِهِ بُدُّ
مَعْنَى الْبَيْتِ يُلَخِصُهُ الْمَثَلُ السّائِرُ: “قالَ لَهُ مَنْ أَدْخَلَكَ بَيْتَ عَدُوِّكَ؟
قالَ: لِأنِّي وَجَدْتُ صاحِبِي فِيه”.
في الْبَيْتِ الشِّعْرٍيِّ طِباقٌ بَلاغِيٌّ هُوَ الصَداقَةُ وَالْعَداوَةُ، فَالطِّباقُ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ، وَهُوَ في اللُّغَةِ أَنْ تَضَعَ النّاقَةُ مَنْسِمَ رِجْلِها عَلَى مَنْسِمِ يَدِها، وَهُوَ أَسْرَعُ في الْمَشْيِ، نَقُولُ طابَقَتِ النّاقَةُ.
لَوْ تَأَمَّلْنا مَعْنَى الصَّداقَةِ والصَّدِيقِ نَراهُما مُشْتَقّانُ مِنَ الصِّدْقِ الَّذي هُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ وَالزَّيْفِ.
الصَّديقُ صِفَةْ مُشَبَّهَةٌ بِاسْمِ الْفاعِلِ ، يَتَساوَى فيها الْمُفْرّدُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّث وَالْمُثَنَّى
ّوالْجَمْعُ بِنَوْعَيْ
نَقُولُ: هُوَ صَديقٌ وَهِيَ صَديقٌ وَهُما صَديقٌ وَهُمُ صَديقٌ وَهُنَّ صَديقٌ.
وَتُجْمَعُ صَديقٌ عَلَى أَصْدِقاءَ وَتُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ.
الصَّديقُ هُوَ الَّذي يَصْدُقُ صاحِبَهُ وَلا يَخُونُهُ وَلا يُسْلِمُهُ وَلا يَخٌذِلُهُ.
قالَ الشّاعِرُ: الْوافِر
صَدِيقِي مَنْ يَرُدَّ الشَّرَّ عَنِّي
وَيَرْمِي بِالْعَداوَةِ مَنْ رَمانِي
وَيَنْصُرُنِي إذا ما غِبْتُ عَنْهُ
وَأَرْجُو وُدَّهُ طُولَ الزَّمانِ
هذا هُوَ الصَّدِيقُ الْوَفِيُّ الَّذِي قالَ عَنْهُ الْمَثَلُ: الصَّدِيقْ عِنْدَ الضِّيقْ.
أَمّا الْعَدُوُّ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَداوَةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَدا يَعْدُو ، وَهِيَ تَجاوُزُ الْمَعْرُوفِ إلى الْمُنْكَرِ.
التَّنافُسُ الشَّريفُ لَيْسَ عَداوَةً بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ لِلْوُصُولِ إلى الْأَفْضَلِ . وَكَذَلِكَ الْغَيْرَةُ لَيْسَتْ عَداوَةً، لِأَنَّ فِيها حَثًّا عَلَى التََطَوُّرِ وَالتَّقَدُّمِ وَالنَّجاحِ.
أَمّا الْحَسَدُ فَهُوَ عَداوَةٌ دَفِينَةٌ عِنْدَ الْحاسِدِينَ، وَهِيَ شَرٌّ قاتِلٌ حَذَّرَنا اللَّهُ تَعالَى منْها فَقالَ:
“وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ”.
الْعَدُّوُّ هُوَ الَّذي لا يُحِبُّ لَكَ خَيْرًا أوْ نَجاحًا في أَيِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِ الْحَياةِ.
أَسْبابُ الْعَداوَةِ كَثيرَةٌ أَهَمُّها التَّنازُعُ عَلَى التُّراثِ وّالْمُلْكِ وَالسِّيادَةِ وَمَتاعِ الدُّنْيا وَالْأَطْماعُ، وَهِيَ كَالصَّداقَةِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرادِ إلى الدُّوَلِ وَالْمًجْتَمَعاتِ، سِلاحُها الْكُرْهُ وَالْبَغْضاءُ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا في أَنْ تَنْشَبَ الْحُروبُ وَالدَّمارُ وَالْقَتْلُ أَبْعَدَها اللَّهُ عَنّا جَمِيعًا.
خَيْرُ الْأَعْداءِ هُوَ الْعَدُوُّ الْعاقِلُ.
وَبِهِ ضُرِبَ الْمَثَلُ: عَدُوٌّ عاقِلٌ خَيْرٌ مِنْ صَدِيقٍ جاهِلٍ.
عَداوَةُ النّاسِ مِنَ الْكَبائرِ، لِأَنَّ الْعَداوَةَ شَرٌّ وَأَيُّ شَرٍّ، خاصَّةً إذا كانَ الْمُعادَى مِنْ سُراةِ الْقَوْمِ أوْ صاحِبِ دِينٍ وَقِيَمٍ. فالَ الشَّاعِرُ : الوافر
بَلاءٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ بَلاءُ
عَداوَةُ كُلِّ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ
هُنا أُريدُ أنْ آتِيَ بِمِثالَيْنِ عَنْ الْوَفاءِ لِلصَّديق:
الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ يَحْيَى الْكاتِبِ. فَقَدْ كانَ صَديقًا حَميمًا لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْمُقَفَّعِ ، وَكانَ مَطْلُوبًا لِلْعَبّاسِيِّينَ لَلْقَتْلِ فَاخْتَبَأَ عِنْدَ ابْنِ الْمُقَفَّعِ . فَلَمّا داهَمَتْهُما الْمُسَوِّدَةُ وَسَأَلُوهُما: مَنْ عَبْدُ الْحَمِيدِ؟ أجابَ كلٌّ مِنْهُما بِإصْرارٍ: أنا عَبْدُ الْحَمِيدِ.
الثّاني: الشّاعِرانِ الْكُمَيْتُ بنُ زَيْدٍ وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَيِّعينَ لِآلِ الْبَيْتِ، وَمُعْظَمُ شِعْرِهِ في مَدْحِهِمْ، وكانَ يَبْغُضُ الْخَوارِجَ وَيَهْجوهُم.
وَالطِّرِمّاحُ بنُ حَكَيمٍ شَاعِرٌ خارِجِيٌّ مِنْ أَشَدِّ أَعْداءِ عَلِيٍّ وَآلِ الْبَيْتِ وَيَهْجُوهُمْ. كانا إذا الْتَقَيا تَعانَقا، يَجْلِسانِ السّاعاتِ دُونَ مَلَلٍ يَتَحَدَّثانِ بِحَرارَةٍ دونَ أنْ يَكُونَ لِلْمَذْهَبِ أثَرٌ عَلَى الْمَوَدَّةِ بينَهُما،
فَإنْ كُنْتُمْ تَعْشَقُونَ التَّطْوِيلَ وَأخْبارَ الأَصْدِقاءِ أُحِيلُكُمْ إلى كِتابِ “الصَّداقَةُ الصَّديقُ” رِسالَةٌ لِأَبي حَيّانَ التَّوْحِيدِي.
إلى هُنا،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق