مقالات

عشوائيات / رياض الصالح

ثم إنك لا زلت تحدثني عن ضرورة الوعي و لزوم الإدراك لكل ما يدور حولي .. حتى ظننت أن العالم الذي أقيم فيه لا يزال عالَماً طفولياً .. و كأن ما تحدثني عنه عبارة عن ضرب من عالم الواقع الرجولي المعقّد .. و الذي لا يليق بمن هم مثلي من أصحاب المثل و معتنقي المباديء الطفولية ..
صرت لا أعرف إن كان ما أعالجه كل يوم في حياتي الرتيبة .. إنما هو خيال محض .. أو كأنني أعايش مجموعة أحلام أو ثلة كوابيس تتعاقب عليّ من كل ناحية .. فيزيدني هذا الإحساس قوة رهيبة .. و تبلداً غريباً في مشاعر الخوف .. و كأنه نتيجة ذلك الاستحقار الطاريء لرتابة الحياة و هوانها في داخلي ..
هل تعلم يا صديقي .. أنني صرت من هواة الجلوس على الحوافِ العالية المخيفة .. أُطلُّ مستمتعاً لأرى أعماق الهاوية .. فلم أعد أرهب المرتفعات .. و لم يعد يراودني ذلك الكابوس الذي كان يقبع في منامي دائماً .. بأني سأقع من مكان مرتفع .. لقد اختفى بالكامل .. حتى أني عوَّدتُ نفسي على تخيُّل الأمر و كأنّه حقيقة .. إلى أن هان الخوف كلّه في مخيلتي .. فصرت أراه مجرد صرصار لا يُقَدّمُ و لا يؤخّر سوى عند من يخشاه فقط ..
قلت لك مسبقاً .. أن الجهل لمن هم مثلي قد يكون نعمةً عظيمة .. فما الذي أضافه الإدراك لرجل مثلي سوى زيادة منسوب الألم .. وتكثيف الحُزن .. و إحياءَ الرغبة في العزلة .. لكنني اخترتُ اعتناق اللامبالاة كمنهج حياة .. هرباً من أعراضِ الإدراك .. لعلك ستضحك عند استماعك لهذه الكلمة .. لامبالاة .. لا أظن أنها تثير الضحك .. بل تثير البكاء .. إنها فلسفة ضخمة توازي فلسفة الوعي الذي تروِّجُ له دائماً .. فهل تظن أن الشخص اللامبالي هو شخص تافه .. أم أرعنٌ سقيم النفس .. لا يا سيدي .. هو ليس كذلك أبداً ..
و لماذا تريده أن يبالي بكل الأمور .. و ليس في هذه الحياة من يبالي بنا كأشخاص مستقلين .. فهذا الشخص اللامبالي هو ملتزمٌ بما يفعله الجميع معه .. لكنه وسّعَ دائرة اللامبالاة لتشمل ما يخصّهُ من أمورٍ كذلك .. و هو جادٌّ في ذلك .. فدائرة اهتماماته تم إلغاؤها بصحبة دائرة الأمانِ المريحَة .. فليس هنالك لديه ما يدعو للخوف من المستقبل ..
و لعلك تسأل عما يعني له المستقبل .. لا أظنه سؤالاً مناسباً إلا لمن هم أمثالك الواعيين .. فالمستقبل المجهول حركة و تفصيلاً و وجوداً أشبه بالنسبة له للعدمية .. فلا يشغل باله بما هو عدمي .. لا أريد أن أبالغ في ذلك .. و لكني أعتقد أنه يرى أن ما يحدث الآن شبيه بما سيحدث بالغد .. فالبشر هم البشر .. و الأيام هي الأيام .. و الحوادث تتشابه و تحصل .. لكنها عشوائية في اختياراتها .. فلماذا يشغل باله بالعشوائيات ..
كما أنني أعترض حقيقة على مصطلح الوعي الذي تتفاخر فيه دائماً .. فهل تظن أنه ضد التفاهة مثلاً .. أم ضد الجهل .. و هل يظن ذلك الواعي أنه أدرك كل شيء .. أم فهم كل الخفايا .. و من قال أن التفاهة لا تتمتع بصفة الذكاء .. فالذكاء ليس حصري بذلك الواعي لوحده أو حتى بمعشر الواعين .. و لا أعتقد أن هذا الانتشار اللانهائي عبر الواقع المكاني و الزماني لهذا القدر الضخم من التفاهة خاضع للعشوائية الغبية .. بل أظنه يخضع لعمليات مدروسة و بدقة فيها قدر عالٍ من العبقرية .. تستطيع بحركات بسيطةٍ تافهة أن تغيّرَ مجرى التاريخ أو أن تصيغ مثلاً شعبياً تافهاً واسع الانتشار .. أو حتى أن تضيف مقطعاً ساحراً للعقول و القلوب يجلب بتفاهته مئات الملايين من الإعجابات .. ثم يقف معشر الواعيين بعيون مشدوهة مضطربة تتابع حجم فشلها في الوصول إلى مدارك هذه الأعداد الضخمة .. لتُلقي نشرتها التبريرية بإطلاق صفة التفاهة و الغباء على ما حصل .. مع أن الذي حصل هو استخدامٌ مُتقَن لمبدأ الواقعية الذي يفهم الموجود و يتعامل معه باحترافية .. ليوصل له ما يلزم .. و لا تهمه الوسيلة المنمقة .. و لا رأي أولئك الواعين بها ..
فإذا كانت البشرية منذ الأزل قد قلصت أعداد الواعين لها .. و استوعبت نسبة ضخمة من أولئك البسيطين الذين يتقنون أساليب العيش البسيط .. و يفرحون بالقليل .. و يعشقون التسلية بأية لعبة تافهة .. و لا تزال النسبةُ راقدة في مكانها لا تزيد و لا تنقص .. فهل تتوقع أن يستوعب هذا العدد الضخم .. نسبة ضئيلة من الواعين النرجسيين .. الذين لا يتقنون إلا فن استعراض القدرات .. و تحقير الأطراف الأخرى ..
أعلم أني فاجأتك يا صديقي بهذه الرسالة .. لكنني أدين لك بهذا التوضيح .. و أعلم أنك تعشق الوضوح جداً .. فقد أهديتني تلك السكين التي جرحتني و آلمتني .. و لقد فعَلَت ذلك .. إلا أنني استخدمتها لكَيّ الجرح أيضاً .. بعد أن احمرّت من نيران اشتعالي .. فداويتُ جراحي بها .. و لعلي أمتَنُّ لهذا القدر من الوعي بأنه أعانني لتخطّي آلامه بتخطّي انفعالاته .. فصرتُ إلى مرحلة أخرى تجاوزت مراحله بكثير .. و أطمئنك بأنني الآن أكثر سعادة من قبل .. أو أكثر لامبالاةً بمصطلح السعادة أصلاً ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق