مقالات
هل من مغامر .. بقلم # رياض الصالح
صدقيني يا عزيزتي أن بعض الأماكن التي لا يؤبه لها قد تكون محراباً في قبلة الإلهام، وبعض الأزمان كذلك، وكأن توقيتها يحل شيفرة خاصة أو كلمة مرور معقدة تخترق آفاق ذهنك المنغلق وتفتح أبواب بحارك الشاسعة، ولن تصدقيني إن اعترفت لك بأن ما يجمعني معك من أماكن أو أزمان تفعل بي ما لا يفعله زمن أو مكان مخصوص بتلك الفتوحات، ثم تسأليني بعد ذلك عن سبب تعلقي الشديد بك، أي سؤال مستفز هذا، وأي تعقيب سخيف تتفوهين به دائماً بخوفك من أنك تشكلين مصدر إزعاج لي، وتشتيت لتركيزي، ليت كل ما يحاصرني من أحداث حياتي ينقلب إلى إزعاج من ذلك النوع الذي تخشينه، وتشتيت ألملم به ما تناثر بي من روحي التائهة هنا وهناك.
أنا أجلس الآن مقابل بحر تتلألأ المياه على سطحه الخلاب، يتبارز مع الهدوء في مباراة من المستوى الراقي، أشبه ما تكون بمباريات عصر الأدمغة، واستحضار الأفكار المبدعة، وكل هذا لأني أرى تلك الشمس الساطعة تتشبه بسطوع وجهك البراق على ضفاف آفاقي القلبية، فما أبهرتني جمالية هذا المكان، بقدر ما كانت استحضاراً لصورة ذهنية متكررة من الذاكرة، لا تزال مختزنَةً في أعماقي لكل إشراقة صباحية لوجهك يا عزيزتي.
نسيمٌ غربِيٌّ هاديء أيضاً يحاول التسلل لعزف نفس السمفونية، لعلَّهُ تراكمُ أنفاسِ أجيالٍ كثيرة مرت من نفس المكان في أزمنةٍ غابرة ، تساءلت يا عزيزتي عن جدوى حياتنا نحن لأولئك السابقين، وجدواها كذلك لتلك الأجيال القادمة، ثم يفلقني ذلك الهمُّ بما ستُخَلِّفهُ أيادينا لأزمنةٍ لن نعيش بها يقيناً، فهي لا زالت في غياهب العدم، وأستغرب من مقدار ذلك القلق الأبله، الذي يفتك بالكثير من الأحاسيس الأخرى التي كان أجدى لنا أن نعتني بها بدلاً من إتعاب أنفسنا بمستقبلٍ لا يزال مختبئاً في طيات الظنون، فكم نحن البشر متخصصون في استلهام ما يتعب أرواحنا ويفتك بقلوبنا ويستثير فينا الأحزان الدفينة.
ثم لماذا نحن كذلك، دائمي التفكير بالماضي الذي انطوى، كما هو المستقبل الذي لم يتحقق بعد، فننسى أننا نستهلك لحظاتٍ حاضرة وأنفاسٍ متوفرة، فلا نلقي لها بالاً ولا نحسب لها شأناً، ونظل ندور في فلك التأجيل والتسويف والخيال الجامح القادم من المجهول، كأننا نُمَرِّنُ أنفسنا على استقبال ذلك المجهول بنفس الطريقة التي تحرص على استقبال مجهولٍ أبعد، ثم نغرق في بحر الظلمات الكئيب، ونلعن الحياة البائسة، التي تَضِنُّ علينا باليابسة.
تُرى هل تخدَعُنا عقولنا أم نحن الذين نهوى حياةَ الخدائع، وهل نتهَرَّبُ قصداً من ضرائب العزيمة، وحصائد اتخاذ القرارات، وهي التي تقربنا من حقيقة ذواتنا وشواطيء أحلامنا، هل كل ذلك الإخفاق يحصل بسبب الكسل أو الرغبة بالراحة المفرطة، أم هو متعة الحفاظ على المناطق الآمنة التي تضمن لنا السكون النفسي والوهم الماتع، لنمارس كل هذه الفنون عند وضح النهار، حتى إذا أقبل الليل المظلم، هاجت فينا عواصف اللوم، فيدعونا الأرق لمقاومة النوم، وتبدأ تنهال القرارات في عقولنا كالموج الهادر، لتعود إلى سكونها أو تأجيلها من جديد عندما يشرق الصباح الهاديء، والذي ينسينا ذكريات ليالينا الصاخبة.
حاولت يا عزيزتي أن أحاكي عقول الأسماك التي تقترب من الشاطيء، لتكون عرضة لشباك الصيادين وصنانير الهواة والمحترفين، ترى لو كانت تتمتع بالعقلية البشرية ذات النمط العادي البسيط، هل كانت لتقترب من شاطئنا المخادع ، أم أنها ستلزم الأعماق الآمنة، صدقيني يا عزيزتي أنني احترت في الجواب، فشخصيتي المغامرة لم تتصور أن هنالك شيء يمنع عن متعة المغامرة والاستكشاف، فبالنسبة لي، ليس هنالك طعم لحياة تخلو من التجارب وليس في حاسبتي ذلك الصفر من المفاجآت، كنت حينها سيقتلني الملل ويسحلني الإرهاق العقلي في ساحة الإعدام الذاتي.
أعلم أنك لا تحبين حديثي عن رغبتي المُلِحّة بخوض المغامرة، وأتذكر وصاياك الدائمة بلزوم أرصفة الحذر، واستخدام كوابح التعَقُّل حتى لا أنزلق في تهوُّرات المخدوعين، أعلم كل ذلك يا عزيزتي، ولكني لا زلت محتاراً بجواز إدراج الحذر في قواميس تعريف المغامرين، وأنت تعلمين قداسة الحروف في عقليَّتي، وحرصيَ الذي تبرره شخصيتي المتحصنة حول ذاتها، على ضرورة التغيير عندي وقلب قمصان الواقع، من أجل استسقاء أمطار الحياة واستجلابها، إلى تلك الصحارى التي تستوطن كينونتي النفسية، فاعذريني على جلستي في ذلك المكان بدونك، وتيقنّي أنك تقطنين دائماً كلَّ أقطاري، وإلا هلكت من وحدتي.. يا عزيزتي.
# بقلم
# رياض الصالح