مقالات

لا بأس . بقلم # رياض الصالح

جيد أن تسألني بأي روح أكتب، لقد طرق هذا السؤال باباً لا يفتح لأحد إلا نادراً، وليس في ذلك إشارة للبخل في ذاتي، ولكنه قد يكون نوعاً من الورع السمج، والتثاقل بلا داعٍ، فلو صارحتك بأنني أجهل طبيعة تلك الروح المتكلمة لكنت تجزم بأنني أخادعك أو أضللك.

ثم هل تظن أنني معجب أو متباهٍ بهذه الغرائب التي أخطها بيميني، وأنتجها بلا هدف لاستعمال، لقد
سئمت من الغموض الذي يشوه حقيقة الشعور الذي أريد نقله من جهة لأخرى، و كأن ما أقوم به من فضفضة ذاتية يشبه ركوب قارب صدئ أثخنته الثقوب، وخانته مجاديفه المتكسرة، فلم تفلح همتي العاتية باستخدام الواقع المهترئ بفاعلية.
حتى وأنا أحادثك الآن، يخيل لي كما هو دوماً، تلك الصورة النمطية المتكررة، وذلك المشهد السيميائي البارع بفرض الملل، كلما تناثرت الكلمات التي تنبعث من محيط اللاوعي المتخبط في داخلي، لتشكِّلَ بعفويتها كائناً مائيّاً أو هلامياً على هيئة رجل نحيف، منتصب، أشعث الرأس، مترهل الثياب، يسير بخطىً متفاوتة الطول، على أرصفة الشوارع المهجورة والمظلمة، أتخيله بمشيته المتثاقلة وهو يجوب أمواج الواقع الفوضوي واضعاً يديه في جيبه، متسكعاً بصمته المزعج دون انتباه لأي حظ عاثر قد يصادفه هنا أو هناك.
هل سبق وأن لفت انتباهك شخصٌ منفردٌ يمشي بتؤدة لا تنم عن استمتاع مسلٍّ، ولا انزعاجٍ بادٍ في محياه، بملامح عالٍمٍ يتسع للكثير من احتمالات الأفعال البشرية، من النوع الذي لو انبلجت السماء عن شمس ساطعة، أو إذا وقعت السماء على الأرض كان كلا الأمر سيان في استحضار كلمة لا بأس، لا أدري إن كان من الممكن أن يقف هذا الشخص أمام مرآةٍ فاضحةٍ للطبائع، قد يحتاج لمرآة من نوعٍ خاص فيها قدرة فائقة لإظهار ما وراء تلك العوالم المتناقضة، وكشف أكوام أسرار متراكمة من الألغاز التي تغطي ذلك الوجه.
يصاحبني اعتراض دائم على هذه الصورة التي ترسمها أفكاري، هذا أشبه بانتحال كاذب لشخصيتي، وتزوير متعمد لتوقيعي، ونسخة مسروقة غير منقحة لكل ما تدلي به فحواي.
فأنا لا أقبل على نفسي أن يساكنني في أعماقي رجل كئيب بهذا الشكل، ولا أستوعب أن يتقلد هذا الإنسان وظيفة التعبير عما يجول في داخلي، فمن الذي أعطاه هذا الحق، ومن الذي كلفه برسم وجهي في مخيلة العابرين بجانبي بهذه الطريقة.
لقد جهزت له ورشة فنية متكاملة، ومنحته ما يشاء من أبهى الألوان، وأجود الأدوات، ليس لشيء، إنما تكلفت بكلّ هذا رغبة في التفاعل اللائق مع حياة، كنت أفترض أن تكون آية في الجمال، كحفلة راقصة مزدانة بما لذ وطاب من المباهج، وفيها ما يشبع الرغبات التي لا تشبع فينا نحن البشر، لكنه بما انتقاه من أسلوب، قد أفسد علي كل طموحاتي، ونكد مزاجي ودبغني بالعشوائية.
كما أني لا أفهم كيف ستتباهى روح تقطنني، بشخص مثل هذا، في معارض الأزياء التي يعقدها البشر يومياً في محافلهم، مع قدرتها الكاملة لاقتناء كساء فاخر وثوب زاهٍ وارتداء قناعٍ مناسبٍ بلا أدنى صعوبة، أتساءل الآن في نفسي عن السبب، وهل أن هذه الشخصية – من الممكن – أنها تعبّرُ عن حالةٍ مبالغةٍ في استنكارها للحفلات التنكرية التي تقام في كل اللقاءات وعند كل حديث، أم أنّهُ بخلٌ متأصِّلٌ في الذات، ناتجٌ عن قناعةٍ تشكلت بعد أن رأى زهد الناس في الحقيقة، أم هي الأنانية المفرطة للاحتفاظ بالجمال في خزانة الروح، والنأي به عن بقية القطيع، خوفاً من المشاركة في تجميل صورة زائفة، وتجنّب إضافة لونٍ أصيل قد يتستر على الألوان المصطنعة التي قد تضايق العيون، فيختلط بعدها الأمر على الناظرين فيخطئون في الحُكم عليها.
أظنك الآن علمت وحدك، أن شبيهات هذه الروح لا تجتمع بالعادة، فهي تسير وحدها على الأغلب، وتلتقي عند إشارات الوقوف فقط، لتلقي التحية وتشير بعينها من بعيد، ببراعةٍ بالغةٍ في استخدام لغة الوجه أن لا بأس يا شبيهتي، فلا جدوى طالما لا شيء يتغير.

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق