مقالات
نوستالجيا الجمعة الجميلة: البروفبسور عبد الكريم عزب
بالأمس، قمت بزيارة ورشة بناء المبنى المستقبلي لقسم الهندسة الطبية في جامعة تكساس ساوثويسترن. المبنى مصمم بأحدث التقنيات، عاينت فيه موقع مختبري المستقبلي، ومكتبي المستقبلي … وتابعت عن كثب كل تفاصيل البناء وتمديدات الكهرباء ونقاط المياه، ونقاط الغازات المضغوطة (هواء، ثاني أكسيد الكربون، نايتروجين)، والكثير من التفاصيل التقنية الأخرى.
لكن أكثر ما شعرت به بهذه الزيارة هو شعور “غريب” بالألفة والإنتماء بمجرد دخولي للورشة …
العمال من حولنا يعملون بكل جد ونشاط، كل يحمل عدته وعتاده حسب عمله، فهذا كهربائي وذاك مقاول التكييف، وهذا دهان وذاك قصار، وذاك عامل الجبصين، وهذا يركب الزجاج على الجدران الداخلية وآخر على الجدران الخارجية، وهذا يعمل في غرفة المصعد، وآخر يضع أنابيب المياه والصرف الصحي… في الخارج، هؤلاء عمال البنى التحتية وجرافاتهم، الكبيرة والصغيرة منها، وذاك أخصائي الجنائن … عالم كامل من الخبرات والمهارات المتكاملة … كل يقوم بعمله فينتج بناء مهيبا … تماما كأنهة خلية بشىرية … كل قسم منها يقوم بعمله بتكامل وتناغم لاستمرار الحياة.
لورشات البناء والمباني الجديدة “رائحة” خاصة لا يعرفها إلا من عاشها …وما أن شممت “رائحة البناء” حتى عاد بي الزمن لأيام هي من أجمل أيام العمر… ولأزيز آلات ومعدّات العمال وقع وإيقاع، نقلني مما أتيت لأجله إلى مكان عميق بالذاكرة لا تمحوه الأيام.
بعد انتهائي من المرحلة الثانوية وقبل دخولي الجامعة عملت بأشغال كثيرة، كتعبيد الشوارع، وترصيص حجارة الأرصفة، وعامل تصليحات في البيوت، وعامل كهربائي. كلها بطبيعة الحال أعمال شاقة بدنيا.
أذكر أياما في صباحات الشتاء الباردة …. تماما كهذه الأيام من السنة … نكون قد غادرنا بيوتنا قبل أذان الفجر لنصل ورشة العمل في منطقة تل أبيب في وقت مبكر رغم الأزمات المرورية … وخلال تمديد أنابيب وأسلاك الكهرباء على سطح (سقف) الطابق العاشر قبيل صب الخرسانة (باطون)، والريح تكاد تجمد آخر نقط دم في جسمك… كان أحدنا يضرب إصبعه بالشاكوش ولا يحس بالضربة من شدة البرد وتجمد الأعصاب في طرف الأصابع. لكن سيعاني آلاما وانتفاخا في ذلك الإصبع لأيام، بمجرد رجوع الإصبع لحرارته العادية وقت الإفطار. وقت الإفطار كنا ننزل إلى أسفل المبنى (على الأغلب في القبو) حيث أقل ما يمكن ريح، ونشعل نارا من بقايا الأخشاب داخل صندوق من التنك، نلتف حولها طلبا للدفء. نأكل مع بعضنا … نتشارك طعامنا وشرابنا … فهذا أحضر زوادة “بطاطا وبيض”، وذاك “شكشوكة”، وآخر أحضر ما تبقى من عشاء الأمس، وآخر اشترى حمص-فول على الطريق من قلقيلية… نجلس كإخوة كعائلة … نأكل من صحن واحد ونتشارك العيش والملح … حتى كسرة الخبز الأخيرة.
وأذكر أياما في قيظ الصيف … بحرارة شمس الظهيرة. كان يمكن أن يتعرض أي منا لضربة شمس أو جفاف خلال فتح شارع جديد في منطقة غير مأهولة استعدادا للبناء … الحجارة التي ترص بها الأرصفة، كنا نحملها بين ذراعينا، عشرة في كل “نقلة”، للمعلم الذي يرص الحجارة بشكلها المعهود على رمل قد فرد بدقة. فعلاوة على وزنها الذي يكسر الظهر، هي مصنوعة من مواد رملية، عند ضغطها لتصبح حجارة، يتكون على سطحها وجوانبها حبيبات كبيرة من الرمل، كأنها قطع زجاج مكسرة، كفيلة أن تدمي ذراعيك في كل “نقلة”, فما أن يأتي آخر النهار إلا وأنت كمن تبرع بوجبة دم كاملة لأحجار الرصيف. طبعا كل هذا في قيظ حرارة الظهيرة في رصيف شارع جديد، وأقرب مكان مظلل على بعد مئات الأمتار. لكن الأفظع هو عندما يطلب منك “المعلم” قص حجر بال”چليوتينا”, وهي آلة يدوية تقص حجارة الأرصفة عند الحاجة لقسم من حجر، وليس حجرا كاملا، في نهاية الرصيف … الچليوتينا وحديدها تكون بالشمس بطبيعة الحال، فتكون درجة حرارة الحديد كفيلة بأن تجعلك تشعر بأنك تمسك بمقبض قد خرج للتو من جهنم! لكن مع ذلك فلا فرحة تقترب من فرحتنا بشربة ماء بارد او زجاجة عصير باردة تحسها كأنها عصرت للتو من ثمار الجنة.
لكن ورغم صعوبة ومشقة العمل بدنيا … فإن لبيئة العمل والعمال شعور خاص بالإنتاجية والتحصيل والاكتفاء … وأنك تبدع شيئا من لا شيء … فتشعر بسعادة غامرة في كل مرة تنهي فيها العمل في ورشة أو مشروع ما… تماما كشعوري اليوم عند الانتهاء من كتابة أطروحة ما أو قبول مقال بمجلة علمية … الفرق أنك بورشة البناء ترى عملك أمام عينيك والذي صنعته بين يديك… فتكون النشوة أكبر.
يا الله! ما أن دخلت بالأمس لورشة العمل فشممت “رائحة البناء” وسمعت أزيز الآلات والمعدات … حتى انتقلت من مكاني لمكان آخر ومن زماني لزمان آخر … وذكريات في النفس والروح لأحبة وزملاء كنت وما زلت أنتمي إليهم وآلف وجودي بينهم كانتماء وألفة السمكة إذا عادت الى الماء. وإن بعدت المسافات وإن طال الزمن.
أحبائي … أيها الكادحون … باختلاف مهاراتكم وقدراتكم واختصاصاتكم … يا من تدفعون صحتكم وعمركم ثمنا للبناء والإعمار في الأرض … أيها الشرفاء … يا من تكسبون رزقكم بكرامة من عرق جبينكم ونحول أجسادكم … إرفعوا رؤوسكم عاليا … أنتم ملح الأرض … وبكم تبنى الأوطان. “أناديكم وأشد على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم”.
(الصورة: أنا في عمر 18 … يكسو ثيابي وجسدي الغبار … لكن تعلو وجهي ابتسامة عريضة حقيقية … مع رفاق الدرب… “الديسك والكونچو” … سلاحين لا غنى عنهما لعامل تمديدات الكهرباء، “الديسك” لقص الحجارة والحديد والجدران، و”الكونجو” للحفر).