وضع أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله معادلة زمنية محكمة. أقفلها أمام مناورات الطرفين الأميركي والإسرائيلي. في أيلول/سبتمبر، كان يفترض أن يبدأ الطرف الإسرائيلي باستخراج الغاز من “حقل كاريش”. في هذا الشهر، يشارف رئيس الجمهورية اللبنانية، حليف حزب الله، على انتهاء ولايته.
بعدها، تنتقل صلاحية التفاوض إلى الحكومة اللبنانية ممثلة برئيسها نجيب ميقاتي في حال لم يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ميقاتي هو الرجل الذي أصدر بياناً يتبرأ فيه من المسيّرات الثلاث التي أرسلتها المقاومة باتجاه “كاريش” في حزيران/ يونيو الماضي.
معادلة السيد نصر الله محكومة بسقف أيلول/سبتمبر. خطاب “نهاية الخط” في 13 تموز/يونيو الماضي مثّل فعلياً إيذاناً بانتهاء مفاعيل الحصار الاقتصادي المترافق مع حرب ناعمة على المقاومة، والذي بدأ منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واستكمله بايدن.
كل شيء محكوم بالوقت. الحياة والدول والإمبراطوريات والكون، ومعادلات القوة والفناء. نعيش ونشيخ في معادلة زمنية جعلها أينشتاين ركناً أساسياً في نظريته الفيزيائية “النسبية”. كل حركة نسبية. مفهوم الزمن يتوقف على سرعة الأجسام وشدة الجاذبية التي يتحرك فيها الجسم. تتحرك 4 مصطلحات ضمن هذه المعادلة: المكان والزمان والكتلة والطاقة. ماذا عن السيد حسن؟ هل يمكن إسقاط معادلات فيزيائية على الصراعات العسكرية؟
هذا تمرين ذهني. ليس أكثر من محاولة إسقاط وتشبيه. المكان ثابت تجسّده جغرافيا الصراع. تكبر وتصغر وفق محددات المعركة. الكتلة تساوي العديد الذي أعلن السيد نصر الله أنه بات يتخطى 100 ألف مقاوم (بحسب تعبيره، العديد له أهمية)، من بينهم الآلاف من قوة الرضوان الجاهزة والمتحفزة للقفز فوق الخط الوهمي نحو الجليل. الطاقة تساوي المقدرات المادية وقوة العقيدة والروح القتالية. بقي الزمان، وهو عامل متحرك، لكنه هنا جوهر القضية.
تحتفظ قوى الصراع عادة بأوراق قوة استراتيجية. مع مرور الوقت، قد يتلف بعضها، أو قد تحترق إذا لعبت في غير أوانها. أما إذا استخدمت في توقيتها المناسب، فقد تحدث فارقاً يقلب الطاولة على الجميع، وتغيّر المعادلات رأساً على عقب.
من هنا تكمن أهمية “الفرصة الذهبية” التي تطرّق إليها السيّد نصر الله وربطها بفترة محددة وضع لها سقفاً في أيلول/ سبتمبر. هذه الأوراق والفرص لا تُلعب إلا مرة واحدة أحياناً. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن تأتي فرصة زمنية أخرى مؤاتية لنضوجها.
خطوة واحدة كانت كفيلة، في إطارها الزمني، بإخراج القوة إلى حيّز الفعل، لينقلب المشهد. المحاصِر بات محاصراً. يعلمنا التاريخ القريب بأن ما يطفو على السطح من أحداث وتصريحات يخالف في كثير من الأحيان ما يعتمل في الأعماق. هل نتذكّر مسيرة الأعلام الإسرائيلية في أيار/مايو المنصرم وموجة الإحباط التي أحدثتها لدى شعوب المقاومة عندما انكفأت الأخيرة عن الرد؟ عشرية النار في سوريا تشكّل مثالاً أوضح وأكبر. لكن كيف بدأ كل ذلك؟ كيف وصلنا إلى انقلاب المشهد وبتنا نلامس حدود الحرب، بحيث لا صوت يعلو فوق صوت السيّد نصر الله؟ كيف وصلنا إلى “نهاية الخط” وما تبعه من مواقف أطلقها السيد نصر الله عبر قناة الميادين في “حوار الأربعين” مع رئيس مجلس إدارتها غسان بن جدو، وهي مواقف شكلت، بحسب وصف القناة 12 الإسرائيلية، ارتقاء عدة درجات مرة واحدة بالتهديد؟
تتراكم الأحداث والتطورات فوق طبقات غير منظورة من الاستعداد في جهة المقاومة، بحيث يصعب الوصول إلى نقطة بداية، لكن محطات مفصلية شكّلت عاملاً محفزاً في تسارع الزمن وفي الارتقاء بالمعادلات. لنعد عامين إلى الوراء.
في حزيران/يونيو 2020، نشر الإعلام الحربي التابع للمقاومة في لبنان فيديو بعنوان “أنجز الأمر”. تضمن الفيديو مشاهد عن إحداثياتٍ لمواقع مهمةٍ للاحتلال الإسرائيلي في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة. وصلت الرسالة إلى الجهة المطلوبة، وقرأ الإعلام الإسرائيلي عبارة السيد حسن نصر الله الواردة صوتاً في الفيديو على أن مشروع الصواريخ الدقيقة اكتمل. العبارة التي ترجمت إلى العبرية كانت شديدة الاختصار ساطعة المعنى: “مهما فعلت في قطع الطريق، فقد انتهى الأمر وأنجز الأمر”. ترجمة الصواريخ الدقيقة إلى الوقائع العسكرية تعني انقلاباً في موازين القوى. يسميها الإسرائيلي أسلحة كاسرة للتوازن.
ما زخّم هذا الفيديو على الأرجح هو الخطاب الناري الذي فجّره أمين عام حزب الله قبلها ببضعة أيام. في ذكرى غياب الدكتور عبد الله شلح والقائد في المقاومة الإسلامية أبو علي حسن فرحات، أعلن السيد نصر الله أن لدى المقاومة “معادلة مهمة وخطرة” في حال استمر الأميركيون في محاولتهم لتجويع اللبنانيين. أردف حديثه بعبارة مفتاحية: “لمن يضعنا بين خيار تسليم سلاحنا وقتلنا بالجوع، نقول سيبقى سلاحنا في أيدينا، ولن نجوع، وسنقتلك”.
في ذلك الخطاب، وقبل عامين من خطاب 13 تموز/يوليو 2022 المفصلي؛ الخطاب الذي تحدث فيه عن الوصول إلى “نهاية الخط”، دعا السيد نصر الله اللبنانيين إلى عدم اليأس، وأشار إلى وجود خيارات في الموضوع الاقتصادي. حينها، كان شيء تقريباً يدفع إلى اليأس؛ أزمة اقتصادية خانقة، انهيار مالي واقتصادي واجتماعي، نقص في الخدمات الأساسية، احتكار وجشع مبني على طبقات من الفساد، والأهم غياب أي ضوء في نهاية النفق. رغم ذلك، أكّد السيد نصر الله حينها أن “من ينتظر تأليب بيئة المقاومة عليها سيفشل، وعليه أن ييأس”.
يدور الزمن دورته، ونقفز عامين إلى الأمام. ينشغل العالم بأزمة كورونا كأنها دهر كامل. يداهمنا عام 2022 بمطرقة روسية تدك جدار الأحادية القطبية معلنة من أوكرانيا عن عصر جديد. الرياح الروسية تتسلّل إلى المنطقة كبشرى انفراج وفرصة ذهبية.
كان علينا أن ننتظر عامين. يتم تنظيم الانتخابات النيابية في لبنان في موعدها المحدد، بخلاف موجات التضليل الإعلامي التي سبقتها حول نية حزب الله “تطييرها”. النتيجة تخالف كل الرهانات على قلب المعادلات الشعبية بميزانيات الحرب الناعمة. ينال حزب الله وحلفاؤه ثقة شرائح وازنة من اللبنانيين، ويحوزون أعلى نسبة في التأييد الشعبي. يفشل الرهان على تأليب بيئة المقاومة. يطرح السيد نصرالله ملف الغاز على الناخبين مشدداً على أن سلاح المقاومة هو الضمانة. تنبري أقلام للتشكيك وللإيحاء بأن حزب الله محشور ويطلق وعوداً لاستمالة الأصوات.
ندخل حزيران/يونيو 2022 بخطاب تمهيدي يربط ترسيم الحدود بضمان استخراج الثروات النفطية والغازية. كان خطاب “نهاية الخط” في تموز/يوليو زاخراً بالدلالات التي لن تتوقف مفاعيلها، بل يرجح أن تتصاعد تدريجياً وتنعكس على حياة اللبنانيين وعلى معادلات الصراع مع العدو بشكل أكثر وضوحاً.
لم يكن أمراً مسبوقاً ولا هامشياً عندما هدّد السيد نصر الله “بقلب الطاولة على العالم” من البلد الذي أُسبغ عليه يوماً أنه “قوي بضعفه”. لا يقلّل من قيمة هذا التهديد ربطه بإذا الشرطية.
“ما بعد ما بعد كاريش” تعني أنّ السيد نصر الله حسب كل خطواته ونقلاته واستعدّ لها. في هذا الإطار، يكمن مغزى حديثه عن أن الإسرائيلي يمكن أن يتنازل في البداية أو في منتصف المعركة أو في نهايتها. في حديثه على قناة “الميادين”، يستند إلى اطمئنان وصفه الإعلام الإسرائيلي برباطة جأش، ولخصته العبارة التي قالها لمحاوره غسان بن جدو حينما شدد على “ضرورة أن يثق الشعب اللبناني بأن لدى المقاومة ما يكفي من القدرات البشرية والعسكرية والمادية كي تخضع إسرائيل لإرادة لبنان”.
الحدود القصوى في دائرة الحسابات هي الذهاب إلى حرب مفتوحة، لكن وفق الظروف الإقليمية والدولية، وتبعاً لموازين القوى، هذا احتمال مستبعد جداً. يمكن الاستدلال بجملة أمور على ذلك. إدارة جو بايدن لا ترغب في الحرب في وقت بلغ مستوى التضخم رقماً قياسياً داخل الولايات المتحدة وعلى أبواب انتخابات نصفية. الدولة العميقة في أميركا ليس من مصلحتها اشتعال الشرق الأوسط في هذا الوقت. يائير لابيد الطامح إلى رئاسة الحكومة بعد انتخابات نيابية يخشى المخاطرة. المستوى الأمني والعسكري في “إسرائيل” يأخذ كلام أمين حزب الله على محمل الجد حينما يتحدث عن زوال “إسرائيل” في أي حرب مقبلة تفرض على لبنان. أوروبا تبحث عن الغاز الإيراني والعربي وغاز المتوسط، ولا مصلحة لديها في وقف الإمدادات أو اشتعالها.
هذا كلّه قد يتأثر في أي مواجهة بين لبنان و”إسرائيل”، فكيف إذا امتدت الحرب لتصبح إقليمية، وهو احتمال ينطوي على درجة كبيرة من القابلية، بحسب تعبير السيد نصر الله، إذا تدحرجت التطورات مع “إسرائيل”؟
هل هذا يعني رضوخاً إسرائيلياً وأميركياً؟ الأرجح أن ذلك سيحدث، لكن بعد مماطلة وتسويف ومناورة ومحاولة الوصول إلى تسوية تحفظ على أقل تقدير ماء الوجه، ولا تظهر تنازلاً سافراً وانتصاراً صافياً للمقاومة. الحرب مستبعدة جداً، لكن لا يضمن أحد عدم وقوعها، وإن كانت الحسابات المنطقية تقود إلى انتفائها. المغزى في هذا كلّه هو الاستعداد للحرب من طرف المقاومة. ما يمنعها فعلياً هو استعداد حزب الله للذهاب إليها وتيقّن الطرف المعادي من ذلك. لكن كيف وصلنا إلى هنا؟
منذ عام 2006، تتصاعد قوة المقاومة في لبنان، وصولاً إلى الصواريخ الدقيقة. منذ ذلك الحين، لم يهدأ الطرف الإسرائيلي ومن ورائه الأميركي. منذ ذلك الحين، يبحثان عن حلول. فشلت عشرية النار في سوريا. فشلت محاولة “داعش”. الترسانة العسكرية الإسرائيلية عاجزة منذ حرب تموز أمام حزب الله. ما العمل إذا؟ تدمير لبنان على من فيه وحشر حزب الله في الواقع الجديد والنيل منه بحرب غير تقليدية، إلى أن يحين الزمن الذي تكون فيه أمور كثيرة قد تغيّرت.
في 22 آذار/مارس 2019، خيّر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو اللبنانيين بين خيارين: إمّا مواجهة حزب الله، وإمّا دفع الثمن. سبقه إلى ذلك السفير الأميركي السابق في بيروت جيفري فيلتمان في شهادته أمام الكونغرس، عندما أوصى بوضع اللبنانيين أمام خيار الالتزام بسياسات واشنطن أو الانهيار.
بدا خلال السنوات الفائتة ومنذ الانهيار الاقتصادي في لبنان بأن العمل البديل من حرب مكلفة وغير مضمونة لا ينحصر بالضغوط الاقتصادية على لبنان والمقاومة، فقد واكبته مسارات متوازية هدفها إحداث تغيير عميق ضمن استراتيجية طويلة الأمد تقيّد يد المقاومة عسكرياً تحت ضغط الواقع الاقتصادي والمعيشي، فيما تحفر عميقاً في البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ضمن مخطط أبعد من الراهن والمستقبل القريب.
إقامة أحلاف وتشبيكات اقتصادية في المنطقة، مثل منتدى غاز شرق المتوسط، هي أحد هذه الأشكال الاقتصادية التي تقيّد استفادة لبنان مستقبلاً من ثرواته إلا ضمن شروط وقيود أميركية وإسرائيلية. تحويل “إسرائيل” إلى محطة ومركز ضمن هذا المنتدى قد يقود مستقبلاً إلى طلب الغاز من “إسرائيل”، ولو عبر الأردن أو مصر.
بموازاة ذلك، تستمر الحرب الناعمة على المقاومة بشكل مباشر وغير مباشر عبر الأدوات الإعلامية التقليدية والجديدة، مع محاولة اجتراح وتغذية ثقافات جديدة تتناقض مع ثقافتها، سواء داخل بيئتها أو بينها وبين سائر المكونات اللبنانية.
كان لافتاً في هذا الإطار البحث الذي كتبه أيال زامير، الجنرال في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، وأحد المرشحين الثلاثة لرئاسة أركان “الجيش” الإسرائيلي حالياً، والسكرتير العسكري لرئيس مجلس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو. يرى زامير أن المعركة ضد إيران ومحور المقاومة يجب أن يتكامل فيها البعد التكتيكي في المواجهة مع البعد الاستراتيجي المبني على سياسة النفس الطويل واستمرار المواجهة الدائم، ويقترح 7 محاور لمواجهة محور المقاومة، من بينها شن حرب أيديولوجية ثقافية في المنطقة، حيث يقوم جزء مركزي في المعركة الإقليمية ضد إيران (وحلفائها) على احتلال قلوب الطوائف والقبائل والسكان، وخصوصاً الطائفة الشيعية.
إبقاء الجسد اللبناني العليل معلّقاً بمصل وقتل المقاومة بألف طعنة وبالموت البطيء هو المعادلة التي تنبئ الأحداث التي بدأت في أواخر العام 2019 بأن الأطراف المعادية للمقاومة تسعى إلى ترسيخها. هي معادلة زمنية أيضاً. قابلها السيد نصر الله بمعادلته الزمنية المضادة في خطاب “نهاية الخط”: إما أن يحترق مشروع بومبيو الآن وتنتهي مفاعيله، وإما الحرب التي فيها “سنقتلك”، وبتوقيت الضاحية الجنوبية.
الميادين