اخبار اقليميه

رواية الذلّ في سجن «رومية»

May 21, 2016

بيروت – لميس فرحات : لا أعرف شيئاً، سوى أني في سيارة في طريقي إلى السجن. ماذا حدث؟. ناداني بإسمي وسألني ماذا أعرف. اعترفت بما أعرفه وما لا أعرفه. لا أذكر إذا تألمت من الضرب والركل، وربما لا أريد أن أذكر. ربما بكيت تلك الليلة وربما لا. لا يهم.
دخلت الزنزانة. أربعة وعشرون رجلاً و»شاويش». الشاويش مصطلح يطلق على «كبير السجناء» ويكون إماً مجرما «عتيق» أو رجلا له هيبته في السجن. يحتفظ بولاعة هي الوحيدة في السجن، وعلى الثلاثة والعشرين سجيناً الآخرين أن يأخذوا منه الإذن للسماح لهم بإشعال سجائرهم. أحياناً يقبل وأحياناً يرفض.
الخوف يشعرني بالجوع. أتلفت حولي. لا شيء يدل على وجود «نواشف». بعد دقائق فهمت اللعبة. قالوا «اعط المال للحرس ويطلبون لك دليفري». والطعام سندويشات معينة من مطاعم ارتبطت اسماؤها بأسماء السجون ورجال الأمن. يمكننا تناول الطاووق أو الدجاج شرط ألا يكون فيه عظام كي لا أخنق نفسي بها، أشعر بما يكفي من الاختناق أساساً.
كيف سيمضي هذا الليلة؟ والليالي التي ستليها؟ ماذا أفعل هنا؟ أسند رأسي إلى جدار ملوث بكل شيء يخطر على البال، من الأرجل والأحذية إلى البول. أنا أمسح كوب الزجاج في المنزل مرتين قبل استخدامه، ألقي برأسي الآن على هذا الجدار، وأنام جلوساً على جانب واحد «رأس وكعب» إلى جوار أكثر من عشرين رجلاً لا أعرفهم. هل من ضروري أن أعرفهم؟ فقد عرفت الكثير وخذلني الكثير وخسرت أكثر من مرة.
تزورني شقيقتي لتطمئن عليّ. أقف بصلابة حتى لا أشعرها بالقلق. هي خائفة بكل حال لكني متماسك. بالكاد تراني من نافذة الزنزانة الصغيرة. بضع دقائق كافية لأسئلة عابرة. تطمئن على صحتي وما إذا أحتاج إلى شيء ثم تناولني بعض علب السجائر.
أقول لها أني بخير، تابعي الموضوع مع المحامي لإنهاء الأمر بسرعة. وقلبي يقفز صارخاً في صدري: «أخرجيني من هنا، لا أحتمل البقاء».
أدخِل رأسي إلى داخل السجن، أنظر حولي متنقلاً بين وجوه «النزلاء». ظلم وذل وحقد. لا أرى شيئاً آخر. رؤوس مليئة بالذل يطفح اليأس من عيونها. يكاد الهواء ينفد. عشرات في غرفة لا تتجاوز بضعة أمتار. نتكدس هنا لأن السجون مكتظة. بلاد اكتظت مقابرها وسجونها، أما أرضها فتضيق بالناس يوماً بعد يوم.
نصف عائلتي لم تقدر الأرض على اتساعهم، فنزلوا المقابر. وأنا هنا في مقبرة الأحياء. أشتاقهم. روحي تبحث عنهم طوال الوقت فأخدر ألمي بكل ما يمكن أن تصله يداي. ربما هي رغبة في تعجيل لقائي بهم، أو محاولة لتسكين تمزقات قلبي في غيابهم. مهما كان السبب، لا يهم.
أحاول أن أعرف قصص المساجين حولي على الوقت يمضي. أحدق في شاب صغير، اسمه بلال، هو أقرب إلى طفل لم يكتمل بلوغه. دخل بتهمة مخدرات لكنه لا يكترث. يجلس قرب رجل على ظهره وشم لشخصيات ديزني (تويتي وميكي ماوس). لا أعرف سبب اختياره الغريب هذا. بلال يحدق مطولاً في ظهر الرجل الموشوم. اقتربت منه وقلت له أن يكف عن التحديق فنهرني قائلاً «اتركني عم بحضر فيلم كرتون». أيهما المجنون؟ لا يهم.
خلال فترة سجني، صدر قرار بمنع التدخين في الزنزانة. عشرات الرجال في غرفة صغيرة ممنوع عليهم التدخين. خلال أقل من ساعة، تحول الجميع إلى ما يشبه الـ»زومبي». أموات أحياء في غرفة مظلمة عابقة بالروائح. يصرخون بلا سبب، ينهالون على بعضهم بالسباب والضرب بسبب وبلا السبب. هل من الضروري أن يكون لديهم أسبابهم؟ لا يهم.
داخل الزنزانة حمّام نطلق عليهم اسم «الياسمينة».رائحته نفاذة وتجربة استخدامه لا تنسى. على الأقل بالنسبة لي. نتبول في كرسي حمام مكسور لا غطاء له. علقنا حوله أكياس النايلون للقليل من الخصوصية. لكن الأكياس لا تحجب الصوت ولا الرائحة. ونستحم أيضاً فوق الكرسي ذاته، بمياه مستقدمة من البحر مباشرة بأنبوب حديدي. نملأ دلواً بلاستيكياً بالماء المالح الممزوج بالطحالب ونستحم. هذه هي الياسمينة.
انتقلت بعد شهرين إلى سجن آخر، أسوأ سمعة إنما أقل اكتظاظاً. الجرذان والصراصير تغزو الغرفة الكبيرة حيث يجلس نحو 180 سجيناً يتقسمون إلى مجموعات صغيرة يطلق على كل منها اسم «سفرة».
سفرتي لحسن الحظ – أو سوئه – كانت تضم شاعراً. هذا الرجل يحب الشعر العربي القديم ومعرفته واسعة بقصص الشعر القديمة والشخصيات التاريخية أمثال المتنبي والمعري والحمداني. يضحكني هذا الرجل الذي يتكلم الفصحى في كل الأوقات. يوقظني من النوم ليلاً ليتلو عليّ آخر إبداعاته. وما ان أستيقظ يجلس قربي ويطلب رأيي في شعر كتبه ليلاً، فأبتسم مع أن القصيدة تبدأ بالحديث عن الحبيبة فتتحول فجأة خطاباً وطنياً عن الصمود والتضحية.
الحب والوطن أكبر خيباتنا. لكن لا بأس. لا يهم.
تفشى الجرب بين المساجين، وبدأ الرعب يأكلني. يهرش المصابون جلدهم وانا أهرش جسدي بعصبية مفرطة من الخوف مع إني لم أصب بالعدوى. ما كان ينقص سوى الجرب.
الحراس أحضروا دواء للجرب دهن السجناء أجسادهم بها، وطلبوا منهم الجلوس في الشمس حتى ينشف الدواء. عندها بدأت أغار منهم. يستطيعون الجلوس في الشمس.
تأخر موعد إطلاق سراحي. كل يوم أعد نفسي بالحرية ثم أصاب بخيبة أمل. الأيام الأخيرة كانت الأقسى. الشعور بالإحباط والخيبة لا يطاق. شعور أفظع من السجن. ربما أسوأ وأكثر ألماً. عندها فقط فكرت بالإنتحار. صبرت على السجن أشهرا طوالا ولم تراودني فكرة الموت إلا عند الخيبة. أساساً، الخيبات المتكررة هي سبب دخولي السجن وليس التهمة الموجهة إلي.
أحد المساجين فعلها. الرجل ببساطة أخرج من داخل خده شفرة شق بها بطنه من الطرف إلى الطرف فتدلت أمعاؤه ليخرجوه من السجن فوراً بعد أن ارتفع الصراخ. وقتها تقيأت في فمي قليلاً. وربما كثيراً. لا يهم.
اليوم خرجت. ودعت صديقي الشاعر وتركت له أغراضي كلها. لم أكن أريدها بأي حال. شقيقتي كانت تنتظرني عند المدخل. شعرت بالخجل الشديد. شعرها مشعث، وجهها متعب حذاؤها مغبر…كله بسببي. كيف أعوض عليها؟ يغزوني الخجل ممزوج بالذنب والحب والقرف. مزيج من كل شيء.
أول ما فعلته كان الاستحمام. فركت جسدي مئات المرات وكدت أن أتجرع الصابون السائل «نكاية» فقط لأنتقم من أيام «الياسمينة» المذلة. نزلت إلى الشارع ومشيت لفترة طويلة. لم يتغير شيء. كل ما تغير هو إني أصبحت أتحدث أقل وآكل أقل وأجيب فقط على المكالمات المهمة. كيف تعرف أن الاتصال مهماً أم لا…ليس ضرورياً فلم يعد يهمني شيء.

 

مقالات ذات صلة

إغلاق