ذكرياتٌ تطفو على خاطري كلما مررتُ أمامَ هذا الصرحِ الطبي العريق، فيفتُرُ فمي عن أشلاءِ ابتسامةٍ؛ وقد تراءت لي شجيْراتُ الخشخاش والليْمونِ، وإشراقةُ وجهِ د.خالد مطيع وهو يبتسمُ لي ولأخي تيسير، وقد رآنا نقفز عن حصاننا الأشهبِ برشاقةِ وخفةِ الصبيان.
كدفءِ بيْسان بقيتْ صداقتُهُ لأبي الذي عرفه فيها طبيباً في عيادةِ ابن عمه د. رشاد الأسير؛ رئيس بلدية بيسان قبل النكبة عام 1948م. عرف الطبيبانِ الكثير من أهالي جلبون والمنطقة، ومما تناقله الناسُ على لسان المختار رشاد الحمدان -وقد لدغته أفعى وهو في طريقه لأرضه في الغوْر- أنْ قال مداعباً د. رشاد: “انت رشاد وانا رشاد دير بالك ع رشاد”.
في بيت علم وفقه أبصرت النور عينا ابن الأصول النابلسية د. خالد في حمص عام 1918م ، حين كان والده قاضياً شرعياً هناك. فوالده القاضي مطيع عثمان الأسير، خِرِّيج الأزهر واسطنبول، عمل قاضيا في تركيا وحمص وحماة والسلط ويافا ونابلس وأخيراً في جنين. وقد شيد مسجدا في السلط، وآخر في حمص ومشفى ومسجداً في جنين. وفي رمضان من عام 1338هج، الموافق 1كانون الأول من عام 1968م أنتقل إلى رحمة الله تعالى.
في الجامعة العربية الأمريكية ببيروت تلَقّى د.خالد لسنتيْن العلوم الأساسية للطب، ثم انتقل إلى “كلية طب القصر العيني”جامعة الملك فؤاد الأول/ جامعة القاهرة حاليا”. ثمّ حصل على الزمالة بالجراحة العامة من كلية الجراحين الملكية البريطانية بأدنبرة عام1946م.
وفي عام 1947م عمل مع ابن عمه د. رشاد في عيادته الخاصة ببيسان، وبعد النكبة جاء إلى جنين، فيما لجأ رشاد إلى الأردن.
أقام د.خالد بضعة أشهرٍ في يعبد، ثم انتقل إلى جنين، فبادر رئيس بلدية جنين حلمي العبوشي بإخلاء منزلهم المؤجر له؛ ليتيح للدكتور خالد إنشاء أول مشفى في المدينة، وأطلق عليه :”مستشفى الشفاء للجراحة العامة والولادة”، وظل وحيدا إلى أن شُيِّدَ مشفى جنين الحكومي عام 1961م، وافتتحه سمو الأمير حسن. وفي عام 2002م غيّرت وزارة الصحة الفلسطينية اسمه إلى ” مشفى الشهيد د. خليل سليمان”.
انفرد مشفى الشفاء بالدور الأبرز في محافظة جنين لأمدٍ طويل، وخاصةً في الختان والولادة، فكان يفد إليه المراجعون من طبريا وحيفا ويافا والناصرة والمثلث. هذا وهو بمثابة معهدٍ لتأهيلِ الممرضين والممرضات، فبعد خمس سنوات من الخدمة يحصلون على شهادةٍ تؤهلهم للعمل داخل وخارج فلسطين. وتجلى دور المشفى الوطني في إسعاف طالبات مدرسة بنات جنين الثانوية اللواتي تعرضن للتسمم من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي قام بتسميم خزانات المياه عام 1983م، وكذلك في انتفاضة عام 1987م…، وعلى اسمه عمل مشفى الرازي عدة سنوات حتى نال الترخيص اللازم.
لم ينحصرعَملُ د.خالد في المشفى بل امتد إلى عيادة وكالة الغوث للاجئين بمخيم جنين، وإلى اليامون والسيلة الحارثية ويعبد… ولسنوات طويلة ظل رئيساً للجنة الفرعية لنقابة الأطباء.
وعلى الصعيد الاجتماعي قام –وعلى حسابه الخاص-بتأسيس محطة ماتورات لتوليد الكهرباء، إلى أن تولت بلدية قائممقامية جنين المشروع، وأنشئوا محطة مولدات تتناسب مع احتياجات المدينة. وبالتعاون مع د. عبد الفتاح ارشيد و ونظمي النفاع وغالب خلف شيدوا سينما جنين عام 1958 م، وفي عام2016 م بيعت، وأقيم مكانها مجمعاً تجاريا يحمل اسم: “برج الساعة” .
وبعد وفاة د. خالد- رحمة الله تعالى-عام 1994م عاد ولداهُ الأطباء: مطيع ولميع من الخارج؛ ليكملوا مسيرة أبيهم بِحُلةٍ عصريةٍ جديدة، سنتعرف عليها في الجزء القادم.
عزت فائق أبوالرب
الأربعاء30 آذار2022م
الموافق 27 شعبان1443هج