مقالات

ابطال لم ينتظروا ان يذكرهم التاريخ رقم 5: تجربة ناجحة للعودة الى الوطن

من كتابات المرحوم محمد قدورة / السويد

يكاد يفر قلبه هلعا عندما لمح مشهد اطفال كاكمام الجوري و هم يتقافزون من اعلى سور عكا الى البحر، كالمظليين في استعراض قفزات حرة شوهدت في مخيم النيرب للاجئين، لجنود يتدربون على الهبوط على ارض مطار حلب المجاور، فيتسمر الاطفال حينها حيال المشهد و تشتد اوتار خوفهم الى مداها و انفاسهم تكاد تنقطع، فيهرعون لانقاذ من يبعده برشوته عن الهدف و قد علق بعضهم على اسلاك كهرباء شبكة حسين ابو حميدة و شبكة محمد الشهابي. فربتت على كتفه كام حنون افزعها ان يجفل طفلها من رؤيا مخيفة، و اردفت قائلة: من لم يقفز يا صديقي عن ظهر السور، فهو ليس عكاوي، تلك المدينة التي ركع امامها عتاة الغزاة يصلون لجبروتها صلاة الحسرة على حلمهم المفقود، مدحورين. و في باحة مسجد الجزار و في ظل جذع النخلة باسقة الطول على يسار المسجد كانها تمد اذرعها الى السماء لتقطف نجمة، تراءى لهذا الزائر المندهش احمد باشا الجزار باني هذا الصرح العظيم ليتمرد فيه على العصملي، و قفزت من عقله الباطن صورة جده ابو مصظفى الذي كان مسجونا في هذا المسجد ايام الفرار من تجنيد سفر برلك العصملي و كان قد استرق السمع في طفولته لهذه الحكاية عندما كان يرويها جده في جمعة من الكبار و هم يسترجعون ذكريات زمانهم قبل ان تسرق منهم اوطانهم، فيهيموا على وجوههم بحثا عن ماوى و امان لاطفالهم و وصولهم الى تخوم الاناضول بجانب احدى ثغور سيف الدولة الحمداني الرئيسية، قلعة حلب الشهباء. و ايقظته من تحليقه في خيالاته، ما بك ياصديق، اسال عما تريد فعند جهينة الخبر اليقين.
و الى غرب جامع الجزار تضيق الزواريب المبلطة التي تقود الى سوق السمك و كل يتغزل بسمكاته على سجيته لانها توشك ان تتراقص لطزاجتها و وردية غلاصمها، فتسال نزار احدهم: سمعت ان الصهاينة اعلنوا مقاطعة شراء سمككم، فاجابها مبتسما، نعيد صيدنا للبحرو لا نطعمهم ما تكرم به بحرنا علينا، و اذ بصوت جارنا ابو لطفي يعقوب الخشن ينبعث من قعر الذاكرة، فينادي على امتداد الشارع الوسطاني في مضافة النيرب الاولى: السمك، يا الله على السمك، السمك الكبير بياكل السمك الصغير و السماك بياكل الكل، بينما كانت سمكاته مرتخية العضلات قاتمة النظرات لانها غادرت حياضها في شبكة صياد منذ زمن. و ايقظته من حلمه مرة اخرى قائلة انظر … انظر: و اذا بلوحات كرتونية كتب عليها بخط يدوي ” بيتنا ليس للبيع ” و قد علقت على النوافذ و الجدران و كلما اقتربنا من ” خان العمدان ” يتكثف انتشارها. امام خان العمدان رغم انه بنيان متهالك لمنع بلدية المدينة القديمة من ترميمه في محاولة للضغط عليهم لبيعه و بيع البيوت التي حوله عبر استخدام سماسرة من الغرب بهدف اختراق المدينة القديمة و تهجير اهلها، تحت يافطة تحديث المدينة و اقامة مشاريع سياحية، و ذلك انتقاما لنابليون بونابرت الذي انهزم امام اسوارها بعد حصار طويل لها باء بفشل ذريع مما اضطره الى القاء قبعته في عرض البحر قافلا الى بلده يجر خيبته المرة مسجلا بذلك هزيمة جديدة على لوح هزيمة غزوات الصليبيين. غير مدركين بان اهل عكا عندما يخرجون خلف السور، يبدا العكاوي يقسم كلما اراد التاكيد على شيئ ما بقوله: “و حياة غربتي”.
و هل من زائر لعكا يمكن ان تكتمل طقوس حجته لها، دون ان يمر ببيت غسان كنفاني، فتطل عليك ام سعد من غلاف روايته و هي تطل من شرفة الطابق الثاني بشخصيتها القوية و عزيمتها الفولاذية و قد احاط بها ابناؤها الفدائيين الذين ارضعتهم حب الوطن فغذوا السير على درب الفداء ليعودوا الى حيفا دون ان تقعدهم معاناة الهجرة و اللجوء عن محاولات العودة و نقل الرسالة من جيل الى جيل و تشغلك ام سعد بحديثها الحازم و حنينها الدافئ في اعطاء جواب مفحم لملكة السويد التي تساءلت باستهجان كيف لام فلسطينية ان ترسل ابناءها للحرب، فتسللت ام سعد الى وعي الملكة فاقنعتها مما حسم تردد الملكة فاقدمت على وضع الشال الفلسطيني على جيدها و تتباهى به ، الا ان ابو اسعد و قيس و مروان شوشوا على المشهد بقرعهم على جدران الخزان فما سمعهم عرب الامريكان و فر ابو الخيزران كالفئران،فقضوا ثلاثتهم شهداء البحث عن لقمة العيش. و كي لا تجيش الامهات على درب ام سعد و دروب ابنائها الفدائيين و ابو اسعد و قيس ومروان في العودة الى ديارهم و يذهبوا هناك للاستمتاع بمسرحية التحرير تقدمها الفنانة العكاوية سامية قزموز بكري على مسرح خان العمدان، لمنع كل ذلك وهما قامت عصابات الاسخريوطي باغتيال غسان في بيروت لان حروفه كانت كالحسام البتار لروايتهم المزيفة. و رافقتهم جهينة بيقينها الى محطة القطار عائدين الى حيفا، ذلك القطار الذي غص بالمجندات و المجندين رغم ان غالبيتهم بعمر الورد الا ان وجوههم مكفهرة من اثر الرعب المرسوم على جباههم، يتابطون سلاحهم من خوف الم بهم بما اصابهم من ذعرهم مما اتاهم من هدايا غزة اثناء الحرب المدمرة عليها صيف 2014 و حقيقة امرهم تقول : يا ويحنا،اهذه بلاد السمن و العسل التي وعدنا بها؟!.
في حيفا و على شارع اغتصب اسمه يهبط نحو البحر على امتداد حدائق البهائيين التي تسلقت على سفوح جبل الكرمل الغربية التي ينتصفها مقام للبهائيين و على ما تشير المعلومات التي يوزعونها على الزوار بانها من الديانات القديمة الشرق اسيوية تزدان باحاتها بحدائق من الورود غناء، متشاكية الالوان و تحد اعمدة رخامية تمتد نزولا بدرج و اسع لا ينقطع الى يصل الى مدخل الحدائق المفضي الى شارع اغتصب اسمه ” شارع بن غوريون ” تقف على تلك الاعمدة منحوتات لطيور الطاووس. و على ذلك الشارع يوجد مطعم و مقهى فتوش يرتاده مثقفوا حيفا الوطنيين. رن جرس الهاتف على الطرف الثاني نزار، نحن في مطعم فتوش و معي ضيفة احبت ان تراكم، و على سرعة الفرح بلقاء جديد و صلنا فاذا بالوضع يضج باصوات متقاطعة، اربع جنود مسلحين دخلوا المطعم و جلسوا على الطاولة المجاورة فاستفز ذلك رنا و هبت واقفة و الهيجان يدب في جسمها من راسها الى اخمص قدمها و غدت عيناها بركة اصطبغت بالاحمرار و بعزم متين صفعت فناجين القهوة و اتبعتها بصوت متهدج: يا اولاد الكلب، تقتلون اطفالنا في قطاع غزة و تاتون هنا لتنغصوا علينا!! و انطلقت كانها الة مسجلة فيها كل اشكال الشتائم و انتحبت بكاء مرا ففروا من المكان، ما هذه اللبوة. و قبلها بيوم تصادف ان التقينا مع فتاة سمراء عشرينية العمر فخاطبتنا بالعبرية طبعا لم نفهم، فتحدثت بالانجليزية و شعرت انه يمكن فهمها بالعربية، فهي فتاة فلسطينية تعمل صحافية و في الطريق نزولا نحو البحر اتتها مكالمة هاتفية و من فحوى المكالمة كانت امها، التي اصرت عليها ان تعود لبلدتها، الرينة. مباشرة و بعد انتهاء المكالمة اوضحت وهي تبتسم بان والدتها قد رات مشهدا على احد الاقنية تعرضت فيه فتيات و شباب و قد ظهرت هي بينهم، نظموا مظاهرة في حيفا ضد العدوان على غزة، فحاصرتهم القوات الامنية بالاحصنة و العصي و اشبعوهم ضربا مبرحا، اثاره كانت بادية على ظهرها و ساعدها عندما ارتدت ملابس السباحة، و اجابت بدون ان يوجه لها سؤال: هذا لا يهم كل ما نتعرض له، بل ان الاهم هو ان يفهموا اننا شعب واحد في الشتات و في غزة و الضفة و الجليل و المثلث و ان الارض لنا وهم دخلاء لا بد ان يرحلوا و يعود اهلنا، فكل اسلحتهم و عنصريتهم لن ترهبنا، فليس اجمل من بحر حيفا الا بحر حيفا و هذه الرواية وضحت اسباب عدم رد نزار على المكالمة، و لدى العودة الى المطعم القريب من وادي النسناس وجدنا جوابا بان الجماعة كانوا مشاركين بالمظاهرة
و في الطريق الى نهاريا كان القطار محشوة عرباته بجنود مدججين باسلحتهم و كان الطير على رؤوسهم و صمت القبور ديدنهم و كل يتخيل ميتته هلعا من مستقبل مجهول يجرون ذيول اكفانهم و كان هناك من يسوقهم الى حتفهم المبرم او يعودوا الى حيث اتى اباءهم تجرهم كذبة كبرى انطلت عليهم، فلا يشعر الناظر اليهم انهم في فرح من سيلتقي اهله في اجازة و انما كمن يسير في جنازة، و في محطة القطار كانت انتصار بالانتظار و ترافقنا بسيارتها على طول الساحل الذي ترامت عليه بلدات باتت اثرا بعد عين الى ان و صلنا الى راس الناقورة و عدنا ادراجنا صعودا و على مفرق ترشيحا و بغريزة من اشتغلت لديه الحاسة السادسة انهمرت الدموع مدرارا و هي تشي بان هنا مسقط الراس، يعوده و قد بلغ من العمر عتيا، بلدة تتعربش بدلال عروس على صدر الجليل الغربي، تعانق فيها الهلال مع الصليب و مشى في ازقتها المبلطة الياس و احمد و تشباكت ايادي فاطمة و ماري و ها هنا كان بيت الاهل و هناك دور ال الهواري التي احترقت بفعل براميل المتفجرات التي القيت عليها فخرج الناس من جحيمها للنجاة باطفالهم، و هذا نصب شهداء المدافعين عن ثراها و هذه دكانة الشيخ بطرس صانع الالات الموسيقية ابا عن جد و هذه دكاكين صنع السكاكين و تلك مقهى ابو شريف و الاخرى مقهى علي حمود و هناك قبالة جبلة علي ابو سعد تقوم حارة المجاهد و الى الشمال الغربي تقع معالوت على ارض مسروقة من البلد والتي ارتكب فيها موشي دايان مجزرة راح ضحيتها العشرات من جنوده، كي يمارس جريمته في القضاء على مجموعة الفدائيين الثلاثة حربي و لينو و زياد. و بات مفهوما لماذا اقسم ابو محمد اغلظ الايمان بانه لن يغادر موطن لجوئه في حلب الى اي مكان في العالم اذا لم يكن الى ترشيحا، و هو من فقراء البلدة، و مفهوما ايضا صمت احمد علي ابراهيم قائد فصيل المجاهدين ضد الانتداب البريطاني و عصابات شتيرن و الهاغانا، رافضا الادلاء باي تصريح منزويا في مخيم النيرب و مفهوم ايضا لماذا نسج سليم البيك منظم عمليات الدفاع عن ترشيحا حتى الرمق الاخير علاقة طيبة و بحماس معنا لانه كان يرى فينا امتدادا لتاريخهم الباسل
. انها زيارة احيت امل العودة، و ستسطر ذكرى زيارة القدس و الناصرة و صفد و يافا فيما بعد زوادة للاجيال الابطال الذين لم يكحلوا عيونهم بمراى الوطن و لديهم الاستعداد للتضحية بارواحهم كرمى العودة اليه.
محمد قدورة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق