ثقافه وفكر حر

خواطر العيد، ما بين هنا وهناك. – د. صالح ابو ليل

  

لو يعلم الرّبيع كم رائع أن يعود في فصل الخريف طاويا المسافة الزمنيّة التي تبعده عنكم، معيدا للذكريات الحبيبة على نفوسكم، أو لربما يجمعكم مع أعزّ الناس على قلوبكم ممن طواهم الزمن وأصبحوا أسرى الخيال.
تمطر السّماء هنا في أوروبا. لساعتها عقاربٌ أخرى، ولشوارعها تاريخ آخر. يحملق بي تاريخي مستحضرا ذكرياتي الخاصة رافضا استجلائي تاريخا آخر. سأصوّر ما استطعت من هذا الزمن الأبله لعلّ بالصور إيقاعا آخر.
العازفون هم نفس العازفون، والراقصون هم نفس الراقصون، لكنهم يختلفون في التأفّف من فصولهم التي أصبحت كالجليد.
لو كنت سيبوية، عمرو بن عثمان، أو الخليل بن أحمد، لقلبت معجم هذه الفصول كما ينقلب زمنها هنا في أوروبا. إنها فكرة رائعة حقا أن نحوّل الأشياء الحتميّة إلى شيء نستطيع أن نتحكّم به حتى نشفي بعض ما فينا من جروح ومن غرور.
لا أريد ذلك. ربما يتهيّأ لي أن الفكرة رائعة. فقد أُثقل على كاهل من أحبّهم أكثر ممّا يحتملون.
ها أنا أحتمل غربة الفقد كلّما شدّني الحنين لمن بالقلب لهم منازل. فلا شكّ بأنها غربة أصعب من تواجدي في أوروبا التي كنت أتوق لزيارتها فانقلب اشتياقي لها إلى حنين آخر.
أنظر حولي أريد أن أمتّع ناظري بالورود والأزهار وبالطبيعة، لكنّني أشتاق لحديقتي رغم ما يحيطني من جمالها الخلاب.
نعم. الطبيعة وحبّ الطبيعة، جزء لا يتجزأ من حياتي. أتساءل أحيانا من أين ورثت هذا الولع الذي يصل بي إلى حدّ العشق. بالطبع من والدي، الذي أصبحت لغته في عيونه الجميلة. كان، في عزّه، يحبّ أن أسافر معه لكي يشرح لي عن جمال مرج ابن عامر وامتداده الفسيح، وما يحيط به من قصص وأشعار. ومن والدتي، رحمها الله التي كانت تعشق الأرض والسّهول والهضاب المحيطة بنا، ولا تستمتع إلا بطعم ثمارها الشهيّة. وتروي لنا حكايات النكبة وما تجمّع في ذاكرتها من حالات غير قابلة للنسيان. كلها تدور حول حبّ الأرض وما سبّبته لها من فرح وما تركته في خلدها من أشجان.
إنها السّعادة الحقيقية فعلا عندما تأكل من ثمار تعبك، إنها الرّاحة التي لا تجدها دائما بالناس. فالأشجار أو النباتات تمنحك العطاء في كلّ الحالات فتشعر أنها تشكرك وتعترف بك وبفضلك. ناهيك عن أنّ الطبيعة ترسّخت في نفوسنا كنوع من انتمائنا لهذا الوطن. فقد كنت طفلا أعشق الوادي وأعشق الجبل والزعتر والميرامية والعكوب وما إلى ذلك من نباتات شعبية تربّيت على رائحتها الذكية وطعمها اللذيذ. حتى الأدب والفن وحبّه نميا بي بين الحقول وعلى ضفاف الوادي وبالحارات والبساتين ومع صحبي الأوائل. كنت أستمتع بالتردّد إلى بيت عمي، رحمه الله، كي أدخل بيته وأتملّى واتطلّع إلى المعدّات والآلات الزراعية المتنوّعة واستمتع بالنظر اليها مراقبا نشاطه وولعه، وفي بيت خالي، رحمه الله، كانت تكتمل في مخيّلتي الصورة حيث ترتيبه وتنسيقه للمعدّات بدقّة وصرامة متناهية. وقد اشتغلت بالزّراعة وأنا في سن السّادسة عشر وفي أواخر العشرينات من عمري، ولي ذكريات أحبّها مع رفاق الدّرب الأعزاء، الذين مهما أبعدت عنهم وفرّقتنا السنين ستبقى محبتهم ممزوجة بمحبتي للأرض وبمحبّتي للطبيعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق