ثقافه وفكر حرفلسطين تراث وحضاره
جلبون:أستاذنا أبو جهاد:/ بقلم عزت ابو الرب
لم تفارق صورته ذهني منذ ذلك اليوم، أراه ماثلاً أمامي في
الطابور الصباحي، ببذلته الزرقاء الغامقة، وقميصه الأبيض، وربطة عنقه
الحمراء، مشرق الوجه متهلل القسمات، يرحب بالتلاميذ الجدد من أبناء الصف الأول، يصافح واحداً، ويبتسم لآخر، ويسأل عن أب هذا، وجدة ذاك، وعنزة فلان، وحصان علاّن، يضاحك المعبس والمقطِّب الجبين.
أمضى وقتاً طويلاً بينهم حتّى هدأت الأنفاس، وتلاشى الخوف والقلق
في عيونهم، فاسترخت الوجوه المشدودة، وعادت الوداعة تزيِّن الوجوه من
جديد. وقف ثانيةً أمامنا، وبصوته الأجش الرخيم، قال: أهلاً وسهلاً بطلاب
الصف الأول، وأشار بيده، فرددّنا خلفه ثلاث مرات مرحبين بالطلاب الجدد،
وتبعها تصفيق حاد.
اتجهنا إلى غرفة صفِّنا، وسار هو أمام طلاب الصف الأول إلى
الغرفة ذاتها . وعلى مقاعد خشبيةٍ طويلةٍ، أجلسهم ثلاثةً ثلاثة، الأقصرَ
فالأطول، وعلى اللوح الأسود الطويل، كتب كلُّ عامٍ وأنتم بخير، وأهلاً
وسهلاً بكم في العام الدراسي الجديد. وذهب غير بعيدٍ خلفَ الخزائنِ التي
تفصلُ صفنا عن جناح المعلمين، وعاد برزمٍ من الدفاتر والأقلام والمحايات
والبرايات المساطر، ووضعها على الطاولة أمامنا . أخذ يعطي كلَّ واحدٍ
منا دفتراً وقلماً، وقال: هذه هديةٌ مقدمةٌ من أحد تجار القرية المحبين للعلم
والمشجعين له. وتابع قائلاً : ماذا نقول لمن يصنع معنا معروفاً؟ فقلنا بصوتٍ واحدٍ :شكراً. فأجاب: أحسنتم. ثمَّ قال مبتسما: ا لآن تعالَوْا نتعرف على أسماء بعضنا البعض؛ أنا المعلم: محمد طاهر (أبو جهاد)، وبدؤوا واحداً واحداً
يذكرون أسماءهم. فقال:أنتم منذ اليوم طلاب الصف الأول، وإلى جواركم
طلاب الصفين الثاني والثالث . فمن منكم له أخ أو أخت في المدرسة؟ فقال البعض:أنا. فسأل: من حفظ من أخيه أو أخته شيئاً مما تعلمه في المدرسة؟ فقال أحدهم: أنا حفظت سورة الفاتحة، فقرأها، فأعطاه محاية. وقال آخر: أنا حفظت أنشودة أنا المحبوبة السمرا، فقرأها وأخذ مسطرة، وقال ثالث: أنا حفظت من ستي قصة: (أنا الطير الخضر الخضر) وحكى لهم الحكاية، فأعطاه براية. ثمَّ قال:صفقوا لمن قرأ . ومن يأت غداً حافظا شيئاً من القرآن أو النشيد أو الحكايات، أعطه هديةً من القرطاسية.
والآن استعدوا للعودة إلى البيت. وأخرج علبةً من الحلوى ودعانا أن
نتناول قطعةً من السلفانا اللذيذة، وأن نعود إلى بيوتنا. فانطلقنا نستبق فرحين متشوقين للبيت بعد يومنا الدراسي الأول، ولكنا كنا متشوقين أيضاً للبقاء مع أستاذنا أبي جهاد.
(من كتاب: جلبون سيرة وتاريخ/عزت فائق أبوالرب)