مكتبة الأدب العربي و العالمي

القريه_المخيفه الجزء الخامس

“ووصل بدلا منهم قطيع من الذئاب الضخمة، لم يعجبها هذا القادم الجديد الذي انتهك أرضها، وقررت أن تعاقبه على هذا الفعل بافتراسه.”
يحكون أيضا عن الجسارة التي واجه بها (ابو الأبيض) قطيعا من الذئاب الضخمة وحده، وكيف تحداه قائدها في معركة حياة أو موت، استطاع ذلك الذئب الذي يقارب حجمه حجم الدب الأسود وتفوق مخالبه وأنيابه مثيلاتها لدى الأسد أن يجرح (ابو الأبيض) جراحا خطيرة، ولكن هذا الأخير استخدم ذكاءه، وقوته في أن يفاجئ ذلك الذئب ويغرز جذعا مدببا في صدره، فيرديه.
يحكون أن (أبو الأبيض) قد صار زعيما لقطيع الذئاب في تلك الليلة بعد ان قتل كبيرها، فأصبحت تطيعه وتأتمر بأوامره، وعندما وصل مطارديه من البشر في ليلة تالية، استطاع أن يقضي عليهم، ويفنيهم جميعا، بمساعدة جيشه من الذئاب، بعد ذلك أقام (أبو الأبيض) آمنا في تلك الأرض، وتزوج وأنجب ومن نسله ونسل أبنائه نشأت تلك القرية في نفس المكان، قرية (كوم الأبيض).
يحكون أنه كان خارق القوى، يتحدث بلغة الذئاب، ويقفز لعشرات الأمتار، ويعدو بسرعة الفهد، ، ويستطيع أن يصرع عشرة من الرجال وحده، وأنه كان قائدا عادلا، وتجاوزت ذريته المئات في حياته، يحكون، ويحكون، ويحكون، ولكن من سيصدق كل تلك الحكايات … بالتأكيد ليس انا.

ساعات قضيتها في مولد (أبو الأبيض) في محاولة للتغلب على الرتابة والملل اللذان اكتست بهما حياتي في الأيام الأخيرة، جربت بعض المأكولات والحلوى، واستمتعت بإنشاد المنشدين والمداحين، وتابعت بعض ألعاب الحواة الساذجة والمسلية، أكثر ما كان يسعدني هو ملاحظة النشوة والسرور على وجوه الجميع وبخاصة الأطفال من أهل القرية، لقد نجح ذلك بالفعل في تغيير مزاجي العكر، بخاصة وأنا استعيد بعض الأجواء والذكريات التي كنت أعيشهما في قريتي وبين أهلي، ذكريات عذبة من أيام الطفولة، الفارق أن هذا المولد كان صباحيا، كما أنه يحمل طابعا خاصا وتيمة مميزة، لم أرها من قبل، يمكنك أن تلتمسها في أقنعة الذئاب التي يرتديها الأطفال، والحكايات التي تروى عن الذئاب، وتماثيل الذئاب المصنوعة من السكر والحلوى، وحكايات (أبو الأبيض) زعيم الذئاب، البطل المغوار الذي أنشأ هذه القرية، والتي ذكرتني قصته بقصة (موكلي) ذلك الطفل الهندي الذي ربته الذئاب في صغره، وصار زعيما لها في الكبر، لم يكن عمدة القرية صادقا تماما معي، عندما أخبرني أن أهل القرية يتطيرون من إيذاء الذئاب أو التعرض لها، الموضوع أكبر من ذلك بكثير، فكما أرى الآن، فإن أهل القرية يعشقون الذئاب ويوقرونها ويعتبرونها مكونا أساسيا في حياتهم اليومية.
في آخر اليوم، وقبل غروب الشمس بساعة، بدأ المكان يخلو تدريجيا من رواده، ووجدت نفسي بدوري أغادر المكان عائدا إلى وحدتي الصحية، التي أقضي فيها ليلتي وحيدا … عندما وصلت إلى الوحدة وفتحت باباها وجدت مفاجأة جديدة تنتظرني، ورقة مررها أحدهم من تحت عتبة الباب، ورقة تحتوي على رسالة مكتوبة بخط يد سئ، يحوي العديد من الأخطاء الإملائية البسيطة، ولكنه كان صالحا للقراءة، والمعنى واضح ومفهوم للغاية:
** إذا كنت ترغب في إجابات عن كل الأسئلة التي تحيرك … ستجدها الليلة في (الشونة) عند منتصف الليل**
طبقت الرسالة، وجلست أفكر فيما جاء فيها، وما يجب علي فعله، يتصارع بداخلي كيانان، الفضول والخوف … الأول يدعوني للذهاب وإطفاء ظمأي للمعرفة، والثاني يخبرني أن تلك الرسالة فخ بين، وأن خروجي في الليل سيجعل مني دون شك طبقا رئيسيا على مائدة العشاء للذئاب في هذه الليلة … أنا لست متهورا بطبعي، ولكنني كنت أعرف أن فضولي سيكسب المعركة في النهاية، أنا لا استطيع أن أعيش في هذه القرية، وكل تلك الشكوك تعربد في باطني، يجب أن أعرف الحقيقة، مهما كان الثمن.
***
كانت طرقات القرية وحاراتها خالية تماما من الناس في تلك الساعة المتأخرة من الليل، البيوت كلها مغلقة الأبواب والنوافذ، وأنوارها مطفأة، أسير بخطوات متوجسة، قلقة، أتساءل هل كان خياري بالذهاب إلى الشونة في هذا الوقت خيارا صائبا، ولكنني لا أملك التراجع الآن، كنت متوترا، عصبيا، توشك أعصابي على الاحتراق، كان أي صوتا خافتا لطائر ليلي أو لصرصور حقل كافيا لأن يجعلني أقفز بفزع أمتار في الهواء، كنت أتحسب بين لحظة وأخرى أن يصل إلى مسامعي ذلك العواء المرعب من مكان قريب، أو أجد نفسي في مواجهة ذئبا ضخما يسد علي الطريق، وهو يزمجر تلك الزمجرة المتوعدة، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ.
وصلت إلى الشونة، فلم أجد بها أو حولها ما يريب، هل تكون تلك الرسالة، دعابة سمجة من أحد الظرفاء، أثق أن أهل قرية (كوم الأبيض) جادون بطبعهم، ولا اعتقد أن بينهم من قد يفكر في إعداد مقلب كهذا!.. كان باب الشونة مفتوحا، كأنه يدعوني للدخول، فدخلت بحذر … الشونة كما رأيتها آخر مرة، أجولة الغلال، وأكوام القش، وبعض الأدوات الزراعية الملقاة دون تنظيم في أرجاء المكان، لا يمكن أن يكون هذا المكان مسرحا لأي أحداث مثيرة أو يحوي بين جدرانه إجابات عن ألغاز وأسئلة غامضة … شعرت بخيبة أمل كبيرة وقررت أن أغادر المكان على الفور، ولكن فجأة وصل إلى مسامعي صوت بعض الرجال قادمون من أول الطريق متوجهين إلى الشونة، شعرت بالخوف، يجب أن أختفي بسرعة وفي أي مكان، لن استطيع أن أبرر لهم وجودي هنا، سيحسبونني لصا بالتأكيد، ولن يقتنع أيهم بأني طبيب الوحدة الصحية، الذي ألقت به المصادفة أو الدعابة السمجة إلى هذا المكان، وبخاصة أن معظم أهل القرية لم يروني في الفترة القصيرة التي قضيتها هنا … قفزت بسرعة لأختفي خلف مجموعة من أجولة الغلال، في نفس اللحظة التي دخل فيها الرجال إلى الشونة، كانوا أربعة من الشباب، توجه أحدهم مباشرة إلى حائط قريب من مكاني، فاندسست أكثر بين الأجولة، ثم جذب ذلك الشاب ذراع معدني ناتئ يخرج من الجدار، فانشق الجدار كاشفا عن دهليز طويل محفور في الجبل يمتد لمسافة كبيرة، دخل الشباب إلى ذلك الدهليز، قبل أن ينغلق وراءهم من جديد.
خرجت من مخبئي، وأخذت أنفض ثيابي وشعري من الغبار والقش اللذان التصقا بهما … أشعر الآن أنني وجدت ما كنت أبحث عنه، الآن أمسك بطرف الخيط الذي سيقودني لسبر كل هذا الغموض … في المرة الأولى التي جئت فيها لهذا المكان، شعرت بإحباط شديد عندما فوجئت أن ذلك المدخل العظيم يؤدي فقط إلى مخزن غلال فقير، الآن اكتشف أن هناك سرا مخفيا وراء جدرانه، سرا يجب ملاحقته والكشف عنه. انتظرت لدقيقة أخرى، ثم جذبت الذراع الحديدي فانشق الجدار مجددا، دخلت بسرعة إلى الدهليز الذي كان مضاء بمشاعل معلقة على الجدران، سرت في الدهليز خطوات قليلة، قبل أن يلتئم الجدار من تلقاء نفسه، فتمتمت بجزع:
– يالحماقتي، لقد التأم الجدار دون أن أعرف طريقة فتحة من هذا الجانب!
هذا يعني أنه علي أن أكمل الطريق حتى النهاية، سرت في الدهليز عدة خطوات قبل أن ينحني بزاوية قائمة في ممر جانبي تجاه اليمين، خطوات أخرى ثم عاد ينحني يسارا وقد صار أضيق، وأكثر رطوبة، والهواء فيه أقل نقاء ووفرة، أصبحت بالفعل أبذل جهدا للتنفس … امتد الدهليز لمسافة طويلة دون أي خيارات، كانت المسارات كلها إجبارية، وكان علي أن استمر في السير إلى الأمام، الآن أسمع صرخات وأصوات عواء مرعبة تأتي من نهاية الدهليز،

الآن أسمع صرخات وأصوات عواء مرعبة تأتي من نهاية الدهليز، الصوت يبدو خافتا من هنا، ولكنه يتعالى أكثر كلما تقدمت في طريقي … بعد عدة ممرات جانبية ملتوية كالثعابين، وجدت نفسي أمام مدخل بهو متسع، الآن أسمع الأصوات عالية، وواضحة، هناك أناس يصيحون في جشع وحماس، وهناك ذلك الوعواء المرعب، الأجش، المتحشرج، عواء أكثر رعبا وقبحا، من كل ما سمعته من ذئاب الأسابيع الماضية.
اقتربت أكثر من مدخل البهو، أقدامي تعجز عن حملي من الرعب والتوتر اللذان يملآن باطني، وأيضا من نقص الأوكسجين وصعوبة التنفس في هذا المكان … ممدت رأسي ونظرت إلى داخل البهو الصخري، الدائري المحفور في قلب الجبل، بحذر، فصعقني ما رأيته هناك، ففي داخل البهو كان هناك نفرا من أهل القرية بينهم العمدة، وبينهم (عبد الباسط)، وغيرهما يتحلقون جميعا حول قفص ضخم، قوي، قبضانه مدعمه بألواح من الصلب القاسي، وبداخل القفص يوجد ذلك المخلوق الرهيب الذي كان يطلق أصوات العواء المريعة، أتسائل هل هذا المخلوق ذئب أم إنسان، أم أنه هجين من كليهما، لم أر في حياتي شيئا بهذه الأوصاف المرعبة، جسد بشري، عضلي ضخم، يربو على المترين طولا، يغطي صدره، وعانته، وأعلى فخذيه، فراء كثيف، أبيض كالثلج، له شعر أبيض طويل ينسدل على ظهره وكتفيه، ملامح وجهه وعينيه بشرية إلى حد كبير، وإن كانت تحمل قسوة وتحوش الحيوانات ، أما أنفه وفكه ذو الأنياب الحادة فكانا بارزين خارج وجهه كالذئاب، حادة، أما أذناه فكانت طويلتين، ومدببتين، ومنتصبتين على جانبي رأسه.
في البداية لم أفهم ما يفعلونه بالضبط، ولكنني شعرت بالقشعريرة ، والذعر الحيواني يسري في باطني عندما فهمت، كانوا يختارون شابا من بين عددا من الشبان يقف في صف قصير، كانوا ينادون باسمه، ويحمسونه، ويشجعونه، ويدفعونه دفعا تجاه القفص، حتى يقترب الشاب منه، ومن الخوف الذي يرتسم على وجهه، يمكن أن تجزم أنه يمر بتجربة مريعة، يمر بها للمرة الأولى في حياته، ولكنه مضطر لآن يفعلها … يقترب الشاب من القفص مدفوعا بالتشجيع، وبرغبته في إثبات جرأته أمام الحضور، يكشف عن ساعده الأيمن، ثم يمد ذراعه إلى داخل القفص، يقترب الوحش من الشاب بخطوات ثقيلة، بطيئة، يسير فيها على أربع أحيانا أو يعتدل ويسير على قدمين، وقد صوب عينيه إلى عيني الشاب بنظرات حادة، مرعبة، جشعة، ثم يقبض الوحش على ساعد الشاب بقوة، ويغرس فيه أنيابه في عضة هائلة تفصل اللحم عنه، يصرخ الشاب في ألم ورعب، فيخلي الوحش عنه، لتتدفق الدماء من جرح الشاب، ومن فم الوحش، الذي يلوك اللحم باستمتاع، قبل أن يرفع رأسه لأعلى وهو يطلق عقيرته بذلك العواء المرعب، الأجش … يتراجع الشاب بعيدا عن القفص، وهو يحمل ذراعه المجروح، ويرفعه بعنت ليشير بأثر العضة فيه إلى الحضور الذين تتعالى صيحاتهم بحماس ونشوة، قبل أن يتوجهوا إلى الشاب الثاني ليسوقوه إلى مواجهة الوحش كصاحبه.
كان المنظر مرعبا بحق، منظر ذلك الوحش الرهيب، الشبيه بالبشر وهو يلوك اللحم البشري، ومنظر تلك الدماء وهي تسيل من فمه، ومن جرح ضحيته، ومنظر الحضور وشهوتهم لما يحدث، واستعذابهم لجروح الشباب ودماءهم التي تسيل، ولكن أكثر ما أرعبني بحق، كان نظرة الفخر والظفر التي ارتسمت على وجوه الشباب بعد أن نهش الوحش سواعدهم … هذا يكفي، لا أريد أن أرى المزيد من تلك المشاهد المروعة، الشاب الثالث يتقدم الآن لمواجهة الوحش، لن انتظر لأرى ما سيحدث، علي الآن أن أعود أدراجي قبل أن يشعر أحد بوجودي … فجأة، قبضت تلك الأصابع القوية على كتفي، أصابع ذلك المتسلل الذي اقترب من خلفي دون أن انتبه له، ونجح في الإمساك بي!

تلفت خلفي في جزع، وكادت الصرخة تنطلق من فمي، لولا تلك اليد التي كتمت الصرخة فيه، وتلك النظرة المحذرة التي رمقتني بها (بدور) وهي تدعوني للحاق بها … سارت (بدور) بخطوات سريعة نحو مدخل الدهليز، فتبعتها حتى وصلنا إليه، فجذبت ذراعا حديدية مخفية في الجدار، فانشق الجدار مجددا … خرجت (بدور) من الدهليز، ولحقت بها، وأنا أقول:
– لقد أرعبتني يا (بدور)، يداك قويتان لا تنبئ بهما ملامحك الرقيقة.
ابتسمت (بدور) في خفر لثانية واحدة، قبل أن تزول تلك الابتسامة، ويحل محلها ملامح جادة على وجهها، وهي تشير لي كي نبتعد سريعا عن هذا المكان … سألتها بفضول، وأنا ألهث للحاق بها:
– هل أنت صاحبة الرسالة!؟
أومأت برأسها، فسألتها مجددا:
– ولماذا لم تخبريني ذلك بنفسك؟
توقفت عن السير، والتفتت لي وهي تقول بجدية:
– حتى لا يروني معك، إنهم يشكون الآن أنك صرت تعرف الحقيقة، ولا أريدهم أن يعرفوا أنني من أخبرك بها.
عادت (بدور) مرة أخرى للسير بنفس تلك الخطوات السريعة، الرشيقة، التي أجاهد كي استطيع مجاراتها، سألتها بفضول:
– ما تلك الطقوس الغريبة؟
– ألم تفهم بعد؟
– أفهم ماذا؟
التفتت لي، وهي ترمقني بتلك النظرة المتفحصة، لتعرف ردة فعلي تجاه ما ستقوله:
– ألم تفهم أنه لا يوجد أي ذئاب في قريتنا؟
قلت بحيرة:
– كيف ذلك لقد رأيت أحدها بعيني؟
كنت أراجع الأحداث الأخيرة في عقلي في تلك اللحظة، فصرخت بفزع، وقد أدركت ما ترمي إليه:
– هل تقصدين أن هذه الذئاب هم …
لم أجد التعبير المناسب، فأكملت هي قائلة:
– بشر متحولون … جميعهم أصبحوا كذلك، بعدما عضهم (أبو الأبيض).
ارتسم الذهول على ملامحي، وأنا أقول
– هل هذا الوحش هو (أبو الأبيض) نفسه، سمعت حكايته في المولد!؟
– هم يطلقون عليه هذا الاسم، وتقام تلك الطقوس في شهر المولد الخاص به.
كنا قد اقتربنا من الوحدة الصحية، وكنت قد أصبت بالحيرة والارتباك تماما، فسألتها مجددا:
– منذ متى وهذا الوحش هنا!؟
– البعض يقولون مائة سنة، والبعض الآخر يقول أنه هو (أبو الأبيض) نفسه الذي يتحاكى الجميع بحكاياته، وهناك من يقول أنها هبة يحملها ذئب واحد في القطيع.
تمتمت بصوت وجل:
– الذئب (الألفا) … الزعيم.
لم تعلق على تصريحي الأخير، فسألتها:
– وهل هو من أهل القرية!؟
– لا أحد يعرف من هو … لا أحد.
أوصلتني إلى الوحدة الصحية، ففتحت الباب ودعوتها للدخول، فرفضت، وهي تقول:
– أهرب … لا تنتظر يوما آخر … لقد حاولوا إخافتك في البداية لترحل من تلقاء نفسك، الآن هم يشكون في معرفتك للحقيقة، ولن يسمحوا لك بالرحيل أبدا وأنت تعرفها … أهرب قبل أن تضيع الفرصة.

من قصص حكايا العالم  الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق