مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية_خديجة_الجزء_الأول والجزء الثاني

يحكى عن رجل رقيق الحال يتعب كل النهار وفي اخر اليوم يعود لامرأته خديجة بخبزة شعير و حفنة من الزيتون وبصلة ويقسمهم معها بالنصف وهذا هو غدائهم وذلك عشاهم ومؤونتهم

من يوم الذي قادهم النصيب لبعضهم وكانت المرأة إبنة عائلة معروفة ووحيدة أبوها والبيت الذي تسكن فيه ملكها ورثته عنهما بعد وفاتهما وكانت حكيمة وعقلها يزن بلدا كما يقال

ورغم ضعف حال زوجها بقيت صابرة ومتحملة معه الفقر والجوع ودائما تقوّي عزيمتها بالصلاة والشكر وتقول : هذا ما أراد الله وما أعطى الحمد لله على كل حال والصبر مفتاح الفرج والله أحسن الرازقين وخيره لا ينتهي من الوجود

مرت الأيام وكان هذا حالهم كل يوم وبعدما يأكلوا خبزهم وزيتونهم يتكأ ذلك الرجل على الحائط ويتنهد ويقول :يا ليت الله يرزقنا وأملأها

كانت خديجة تنظر له بدهشة ولا تفهم ماذا يقصد فما الذي يريد زوجها ملأه فهو معدم لا يملك شيئا وفي أحد الليالي بعدما سمعت تلك العبارة التي يرددها الرجل كل يوم

قالت في نفسها : يا امرأة زوجك جائع و يكدح طول اليوم وهذا الطعام القليل لا يكفيه وقررت أن تقتسم معه نصيبها فهو أولى بيه منها ودون أن يخجل الرجل من نفسه كان يأخذ منها الطعام ويأكله

لكن المرأة المسكينة تجهل أن زوجها اللئيم لا يحرم نفسه من شيئ وهو ينزل كل يوم إلى السوق ويذهب لدكاكين الطباخين ويأكل ما يشتهيه: مرة لحما مشويا أو كوارع حتى يشبع ثم يمسح شفتيه ويعود لزوجته بطعام حقير

والمرأة المسكينة محرومة : لا قفة خضر ولا لحم
وكانت جاراتها يلاحظن أن يدي الزوج دائما فارغة لكن كلما حملوا لها طعاما ردته لكي لا يعتقدن أن زوجها يجوعها

وكانت تدّعي أنه يحضر القفة من السوق في الصباح الباكر لكنهن لا يصدقنها فلم تشم واحدة منهن رائحة الطعام في دارها ولم يرين لباسا جديدا عليها وكان ذلك يصيبهن بالحزن عليها فهي صغيرة ولا تستحقّ ذلك

دار الزمن ومرض زوجها ولم ينفع الدواء الذي وصفه الأطباء ومات فبكت عليه خديجة وقالت :كنت آكل ربع خبزة والآن لن أجدها وبقيت تنفق من تلك الدراهم القليلة التي تركها زوجها حتى نفذت كلها

بقيت المرأة حائرة ولا تعرف ماذا ستفعل فليس لها أقارب مساعدتها
كان في الشارع الذي تسكن فيه بناء اسمه عبد الله يشتغل مرة ومرات يبقى عاطلا وكان ينام في الشارع أو عند أحد من أهل الشارع فسمع بتلك الأرملة فقال في نفسه : سأطلبها للزواج وهكذا أجد دارا أبيت فيها وأنفق على تلك المرأة من مالي القليل وأؤنس وحدتها

فذهب إلى إمام الجامع وطلب منه أن يخطبها له فسألته عنه فمدحه في أخلاقه لكن أخبرها أنه فقير الحال

أمضت المرأة الليل وهي تفكر وقالت :كيف أتزوج من شخص ليس له عمل قار إذا اشتغل أكل وإذا بقي عاطلا جاع وقد تمضي عليه أيام لا يربح مليما واحدا وتكون حياتي معه أسوأ من الأول ثم يرجع لها شاهد العقل

وتقول :الحي أبقى من الميت و الفقر ليس عيبا والمهم أنّه رجل يدخل داري فلا يطمع الناس في ومادام يشتغل حتى قليلا فبامكانه أن ينفق علي بيته والقليل يكفي

وفي النّهاية أعجبتها الفكرة وأرسلت إلى الإمام تعلمه أنها موافقة وأعطى الرجل لعبد الله جبّة وبلغة ليصلح من حاله ليلة زواجه وكلّ واحد من الشارع كان يساعده بشيء

فذهب إلى الحمام مجانا وحلق له الحلاق شعره ولحيته وعطره
أمّا المرأة ففتحت صندوق ملابسها وأخذت ثوبا كان لأمهّا ،ثمّ استحمت وجاء الجيران فزيّنوها وجلست تنتظر زوجها وهي خائفة أن تسخر منها نساء الحي

فلقد سمعت أنه رجل خشن
لكنه لما دخل رأت فتى حليق الوجه جميل الملامح فسلم عليها وأعطاها هدية ملفوفة

فقالت في نفسها : لقد كدت أن أرفضه لفقره الشديد والحمد لله أني لم أفكر بمنطق الدنيا ولاحظت أن الفتى يسترق النظر إليها فلم يكن يتصور أنها جميلة بهذا الشكل

فكل ما كان يفكر فيه أن ينام على فراش نظيف فشكر الله على نعمته وتمنى لهم الجيران وأهل الزقاق عرسا سعيدا فانصرفوا

#حكاية_خديجة_الجزء_الثاني
…… في الصباح نهض عبد الله باكرا وخرج إلى الحي يبحث عن عمل ودار في كل مكان حتى ناداه تاجر ليصلح له سور داره فشمر الفتى عن ذراعه واشتغل بكل حماس وهو يفكر في خديجة التي تركها دون طعام

ولما إنتهى شكره الرجل على عمله المتقن وأعطاه أجرته وطلب منه أن يأتيه غدا لصباغة الدار
ذهب الفتى للسوق واشترى كيلو الكسكس مع ما يلزم من الخضر والزيت ورجع لبيته

فقامت خديجة من حينها وأخرجت القدر من الدهليز وطلبت فحما ووقيدا من عند جارتها وبدأت تطبخ مثل النساء
فمنذ زمن لم تشعل الكانون ولم تشم رائحة الطعام في دارها

ولما نضج الكسكس أكلت هي وزوجها حتى شبعا وحمدا الله على النعمة
قال عبد الله : ليس لنا شيئ لنسهر لكن غدا سأشترى شايا وسكر وربما لوزا لكني أشعر الآن برغبة في النوم فأمامي شغل كثير غدا

في الفجر نهض عبد الله على صياح الديكة صلى صلاته ثم خرج وغاب طول النهار وجاعت المرأة فأكلت ما بقي في القدر ثم نظفت البيت وفي المساء سمعت صوت عبد الله

ففرحت كثيرا وجرت لتفتح الباب فرأت قفتين عامرتين أدخلتهما إلى المطبخ
وكان الفتى ينظر بسعادة لإمرأته وهي تفتح القفف
فقال لها : صاحب الدار التي صبغتها تاجر ثري

وفي نصف النهار أعطاني صحن فيها لوبياء وفخذ دجاج فوضعتها في ركن ولما سألني: لماذا لم آكل ؟
أجبته: لقد أخفيتها لإمرأتي
فقال: بارك الله فيك على معروفك

ولما أنهيت عملي قال الرجل: هذه أجرتك ومعها قفة والله لن تعودن لإمرأتك إلا بدجاجة لطبخ اللوبياء و بالدقيق لخبز الشعير وكل ما يلزم من طماطم وفلفل حار

وحين كنت في الطريق اشتريت الشاي والسكر واللوز والفحم وفضل الكثير من النقود في جيبي

بعد قليل فاحت رائحة الدجاج والتوابل في الدار
ثم دارت أكواب الشاي واللوز المقلي
وبدأت الجارات يغرن من خديجة بعدما كنّ يشفقن عليها

وصار عبد الله لا يعود إلا وهو يحمل شيئا
وذات يوم أتاها بقطعة قماش وطلب منها أن تخيط ثوبا جديدا بدل الذي عليها
وبعد مدة أتاها بحذاء وبدأت حال خديجة يتحسن وصح بدنها وزاد جمالها وبعد أن كان زوجها يبيت في الشارع أصبحت تناديه سي عبد الله

وأحد الليالي سمعها جارها منصور وكان رجلا متكبرا
فقال لإمرأته هل رأيت خديجة إبنة الأكابر يتزوجها متشرد ؟ والآن صار سيدا في هذا الحي

فردت عليه: أليس هو أحسن من الذي كان يجوعها الرجال بشهامتها يا سي منصور وإلا أنا مخطئة ؟
قال لها : لما تتحسن حال خديجة فلن تعود بحاجة إلى ذلك الجائع فكل واحد يرجع لأصله هكذا جرت العادة

لكن ما يجهله منصور أن خديجة تزوجت صغيرة ولم تعرف ما هو الحب حتى رأت عبد الله وفي البداية لم تكن تعرفه وظنت أنه كغيره من فقراء العمال الذي يعيش ليأكل وينام

لكن رأت بين أمتعته كتبا يقرأ فيها كل يوم ولما فتحتها تعجبت فلقد كانت في الكيمياء و رفض أن يجيبها لماذا يحتفظ بتلك الكتب

ولما يجلس معها ويتحدثان كان يدهشها بعلمه وعرفت أن وراءه سرا يخفيه عنها وكانت تلك المرأة حاذقة كلما يأتيها زوجها بشيئ كانت تأخذ حاجتها وتدسّ الباقي لوقت الشدة أو مجيئ ضيف على غفلة
ومع الوقت صارت لها عولة مثل بقية النساء سميد وتمر وجرة من الزيت وأخرى من القديد

في أحد الأيام كان عبد الله ينقل كيسا ثقيلا من الحجارة فسقط أحدها على ساقه وأصابها بجرح كبير فبقي في الدار لا يستطيع الحراك

وبعد وقت قصير نفذ ما لديه من مال فبكى وقال لخديجة ستجوعين الآن وأنا مريض
لكن المرأة الحاذقة أجابته لا تشغل بالك فعندي في الدهليز الخير الوفير

كان منصور يعلم بحال جاره ورغم ذلك لم يزره أو يساعده بشيئ كان يتمنى أن يرجع للشارع ويبتعد عنه
لكن عبد الله صبر على ما حل به وبقي يأكل أسبوعا مع إمرأته من العولة حتى نفذ كل شيئ ولم يبقى لهم ما يأكلون

#حكاية_خديجة_الجزء_الثالث
….. كان منصور يعلم بحال جاره ورغم ذلك لم يزره أو يساعده بشيئ كان يتمنى أن يرجع للشارع ويبتعد عنه
لكن عبد الله صبر على ما حل به وبقي يأكل أسبوعا مع إمرأته من العولة حتى نفذ كل شيئ ولم يبقى لهم ما يأكلون

قالت خديجة : لا تقلق يا رجل سأخرج غدا وأبحث عن عمل بإمكاني غزل الصوف ورحي الشعير لنساء الحي ومن خلقنا لا يضيعنا صمت عبد الله برهة وقال لها: حياتي دائما صعبة
كان أبي يبيع الأعشاب والعقاقير ولما كبرت قليلا أرسلني لتعلم صنعة الكيمياء لكنه مرض وما لبث أن مات بعد أيام ولحقت به أمي أيضا

فباع إخوتي الدار ولم يعطوني شيئا وبقيت أعواما عند عمي وذات يوم مد لي صرة دراهم وطلب مني أن أبحث عن عيشي فبناته كبرن ولم يعد قادرا عن إيوائي في داره

فخرجت هائما على وجهي وعرفت البرد والجوع حتى قادتني قدماي إلى هنا وصرت أشتغل مرة في السوق ومرة في البناء وأخرى عند الخبّاز ولم يبخل علي أهل الحي بالطعام أو المأوى

ورغم كل تلك الظروف كنت أفتح كتبي وأقرأ حتى فهمت ما جاء فيها ولو رزقني الله لفتحت دكانا وأتيت بما حفظه عمي في القبو من آلات الكيمياء لقد أجبتك الآن على سؤالك
فقالت: من يدري ما تكتبه لنا الأقدار ؟

كان عبد الله مستلقيا على فراشه وفجأة رأى فأرا صغيرا يدخل وسط شق في الحائط وجاءت خديجة تجري وفي يدها مكنسة وصاحت: كالعادة يأتي ذلك الفأر اللعين ليسرق ثم يختفي لا بد من إصلاح الحائط

فقال لها :سأتولى ذلك الآن ولا تشغلي بالك ثم انحنى لأسفل فرأى أن أحد قطع الطوب ليس ملتصقة مع غيرها فأزاحها ليقتل الفأر لكن ظهرت ورائها حفرة فيها صندوق من الخشب

فأخرجه وما كاد ينظر فيه حتى شهق من الدهشة فلقد كان مليئا بالليرات الذهبية ثم ملأ جيبه بالذهب وأرجع الصندوق ورد عليه قطعة الطوب دون أن يخبر خديجة بشيء

وفي الصباح لبس ثيابه وقال لها: سأخرج لشراء بعض الأعشاب لأضعها على ساقي
سألته : ومن أين المال فإنها غالية الثّمن
أجابها : سأتدبر أمري

نزل الرجل إلى السوق واشترى مرهما دهن به ساقه ثم وضع عليها ضمادة وارتاح في مقهى ولم ينس أن يطلب نارجيلة دخنها متعة وبعد ساعة بدأت الأوجاع تخف

فقد طهرّت الأعشاب الجرح وأصبح بإمكانه المشي دون أن يعرج فاكترى حمالا نقل له القفاف والخيرات إلى داره
ولما فتحت خديجة الباب لم تصدق عينيها

كان هناك كل ما تشتهيه النفس من أكل ولباس وبخور ولبان
ومن كثرة فرحتها لم تسأله من أين أتى بالمال فأكلا وشربا

ووضعت خديجة ثوبا جديدا وتجملت
فقال زوجها :من هذه الليلة لن تلبسي سوى الحرير فالله أعطانا خيره
ومن الغد أحضر البنائين فأصلحوا الدّار ووسعوها بعد أن كانت خربة وكسوها بالرخام وأتى بالزرابي وأثاث جديد
وخديجة فمها مفتوح من الدهشة لا تعرف ما تقول

أما منصور فكان يمر كل يوم أمام دار جاره ويتعجب
بعد أيّام أصبح كل سكان الحي ينادي زوج خديجة سي عبد الله وصارت له بغلة يركب عليها وخدم

لكن منصور قال في نفسه :حتى ولو أصبح من الأغنياء فهو يبقى عندي ذلك الجائع العريان ومتى كان المال يصنع السادة

أحد الأيام كانت خديجة ساهرة مع زوجها فقال :يا ليت الله يعطيني القوة وأفرغها
فاستغربت المرأة وقالت : زوجي السابق كان يدعو الله ليملأها وأنت تدعوه ليفرغها هل جاء الوقت لتشرح لي ماذا تقصد ومن أين أتاك كل هذا المال ؟

قال لها : تعالي معي إلى غرفتك ثم أراها الحائط وقال لها: كان زوجك يدسّ الذهب في حفرة ولقد وجدته بالمصادفة حين خرج الفأر من شق صغير وهذا هو الصندوق ومدّه لها

فلما رأته بدأت تنوح على الأيام التي عاشتها مع ذلك اللئيم وقالت :لقد كنت أجوع وأتعرى ليجمع هو الذهب تبا له
لما فعله معي من قهر

لكنّه أجابها : لا تبكي على ما فات واحمدي الله أنه عوضك خيرا وهو يرزق من يشاء دون حساب ولقد إبتهج كل الناس بعدما إسترجعت مكانتك والفقراء يأتون لبابك لأنّهم يعرفون كرمك وفضلك

هيا إمسحي دموعك فإني لا أطيق الحزن على تلك العينين الجميلتين

عن قصص وحكايات العالم الاخر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق