عواصم ثقافيه
تاريخ الدولة العثمانية
تاريخ الدولة العثمانية (1) ————————————————–
مشكلة التاريخ العثماني بين المهاجمين و المدافعين
——————————————————————–
إن علم التاريخ ليس مجرد تسجيل للوقائع والأحداث بصورة مجردة، إنما تتدخل به الانتماءات الأيديولوجية والفكرية لكل كاتب، ولعل أبرز مثال على هذه التدخلات من الناحية السلبية هو ما فعله المؤرخون في كتابة تاريخ الدولة العثمانية سواء المهاجمين أو المدافعين ؛ فقد سخر عدد منهم كتاباته لأغراض أخرى ليس لها علاقة بدراسة علم التاريخ و تمادى الفريقان إلى حد المبالغة غير المعقولة مما أدى بالنهاية لتراشق الجماهير من الفريقين بسيل من الإتهامات و الشتائم على صفحات الجرائد و مواقع الشبكة العنكبوتية و القنوات المرئية و المسموعة و أحيانا بعض الكتب ..
و قد وقع طالبو الدراسة و الباحثون عن الحقيقة ؛ في هوة الفوضى والتناقض التي صنعها الكتاب و المذيعون و اصحاب المسلسلات التي وصلت بهم الحال أن جعلوا احداث ذلك التاريخ كالأساطير سواء المنتقدة أو المحسوبة للعثمانيين ؛ فبات الطلاب و الباحثون لا يثقون في أي معلومة بخصوص هذا التاريخ المشكل الذي كتبه و أذاعه الفريقان.
وفي الواقع نتوقع أن نتعرض لسيل جارف أيضا من الإنتقادات و الإتهامات و أيضا من كلا الفريقين ؛ فكل منهما يريد أن نكتب على هواه ؛ فالمهاجمون يريدون منا أن نذم فقط دون أن نذكر أي ميزة ؛ و المدافعون يريدوننا أن نمدح دون أي انتقاد ..
ولو تعقل الفريقان لعرفوا أن دراسة التاريخ العثماني هي كدراسة أي تاريخ آخر لا يحق للمؤرخ أن يجمع السلبيات جنبا إلى جنب ليصنع منها هرما و يغفل ذكر الإيجابيات ؛ كما أنه لا يحق له أن يفعل العكس .. ناهيك عن أن يكذب أو يبالغ أو يضيف من عندياته .. فالخاسر الحقيقي و المظلوم هو الجمهور الذي يحاول الفريقان استمالته و تسخيره لأغراض لا تتعلق بعلم ولا بحث ولا دراسة .
وقد انقسم كتاب التاريخ العثمانى إلى فريقين :
🔼 الفريق الأول وهو الأغلب – لأنه ضم المستشرقين الغربيين واليهود والأوربيين – والقوميين والعلمانيين و السياسيين الذين لديهم مشاكل مع الأتراك سواء الملاصقين لحدودهم أو البعيدون الذين يشعرون بالتنافس على النفوذ السياسي والعسكري أو الإقتصاد أو الثروات ، ..
وهؤلاء جمعوا كل السلبيات جنبا إلى جنب و استخدموا أساليب العداء والطعن والتشويه والتشكييك فيما قام به العثمانيون من خدمات للإسلام وأنكروا كل ميزة إيجابية،
🔼 أما الفريق الثاني عبَّرَ عن انتمائه للأمة و اعتبر الدولة العثمانية جزءا من الحكومات التي صانت بيضة الإسلام لعهود طويلة ؛ و من منطلق أنه لا فرق بين المسلمين ولا مجال للقومية ؛ إلا أن جانبا منهم اتخذ من المبالغة و التضخيم أسلوبا له ؛ وتمادى إلى الحد الذي جعله محسوبا على التيار القومي الذي يمجد الجنس التركي ووضع نفسه بجدارة في خانة الإتهام بالترويج لسياستهم المعاصرة .
ولكن الحقيقة هي وسط بين الإتجاهين فكما أن هناك ميزات هناك أيضا عيوب ؛ و كأي دولة أو إمبراطورية فلها أطوار تمر بها بين الصعود و الركود ثم الإنهيار ؛ يصاحب كل طور منها حكام أهلتهم أخلاقهم و هممهم و مواهبهم لصناعة ذلك الطور ؛ فطور الصعود ستجد الحكام و الأمور شبه مثالية ؛ وطور التدهور و الإنحطاط ستجد حكاما ضعفاء وظلمة و تجد الشكوى كثيرة منهم لدى سكان أقاليم حكمهم .
——————————————————————-
✏ أولا عينة مما يقوله المهاجمون
كأن ابن خلدون كان يقرأ المستقبل حين تحدث للسلطان المملوكي برقوق في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي مردداً عبارته الشهيرة، “لا تخشوا على ملك مصر إلا من أولاد عثمان”، في إشارة إلى مؤسس الدولة العثمانية.
لم يكن ابن خلدون وحده أوّل المحذرين من توسع الدولة العثمانية، فكثير غيره من المؤرخين الذين عاصروا بدايات نشأة تلك الإمبراطورية على يد عثمان بن أرطغرل (عثمان الأول) عام 1299م، وحتى بداية ما بقي ليثير جدل “غزو أم فتح؟” للمنطقة العربية بداية من الشام ومصر (الدولة المملوكية) على يد السلطان العثماني، سليم الأول في عام 1517م، ..
ظلت قرون الحكم العثماني للمنطقة العربية مسار خلاف بين رواية أغلب أنصارها عرب، ترى فيها “فترة دموية كاحلة الظلمة، استنزفت لقرون ثروات العرب وأفقرت شعوبهم”، فيما يتمسك الأتراك باعتبارها “خلافة إسلامية مفترى عليها، حمت المنطقة من الاستعمار، واتسمت بالتسامح الديني والازدهار والتنمية”
فما حقيقة حكم العثمانيين للمنطقة العربية، وهل كانوا غزاة أم فاتحين، وماذا جنت المنطقة العربية ودولها في قرون خضوعها لحكمهم؟ هذا ما تحاول “اندبندنت عربية” الإجابة عنه عبر تقليب أوراق التاريخ والوثائق، وآراء من كتبوا عنها، على مدار العقود الخمس الماضية، لاستيضاح حقيقة “تلك الدولة”، التي تجلت “حقيقة دمويتها” وفق المؤرخ المصري محمد بن إياس الحنفي، في المشاهد الأولى لدخول السلطان العثماني سليم الأول (توفي 1520م) مصر منتصراً على آخر سلاطين الدولة المملوكية طومان باي، عام 1517م، مقراً بإعدامه.
روى ابن إياس، وهو من عاصر تلك المرحلة (توفي 1523م) في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، “كان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر، ولما شنق طومان باي على باب زويلة، وطلعت روحه صرخ عليه الناس صرخة عظيمة، وكثر الحزن والأسف عليه”، مشيراً إلى أن “السلطان المشنوق ظل ثلاثة أيام معلقاً حتى جافت رائحته”.
هذا الشنق الذي وصفه المؤرخ المصري ابن زنبل الرمال، في كتابه “انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان” بأنه “أشأم الأيام على أهل المملكة حيث بكت عليه الأرامل والأيتام”، شبهه بن إياس باليوم الذي “شهدته بغداد، في عهد الدولة العباسية، على أيدي جند هولاكو (المغول) عام 1258م”.
ورغم “المشهد الدموي” لبداية مرحلة الحقبة العثمانية عربياً، يتمسك مؤرخون، بينهم عبد العزيز الشناوي الذي كتب في “الدولة العثمانية، دولة إسلامية مفترى عليها”، أنها “حمت العرب من الاحتلال البرتغالي وحافظت على الإرث الإسلامي ضد الحملات الصليبية”، بينما يرد المؤرخ عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بقوله إن “استخدام السياسة والدين في التأريخ يؤول وقائعه ويبعدنا عن الحقائق”.
ووفق ما استقرت عليه المصادر والوثائق التاريخية، فإن الدولة العثمانية منسوبة في تسميتها إلى مؤسسها الأول عثمان بن أرطغرل، وكانت عبارة عن قبائل رعوية تقيم في مناطق وسط آسيا، وتوافدت على الأناضول، واستقرت هناك.
يقول الدسوقي، “أصل العثمانيين قبيلة كانت تقيم شمال غربي الصين القديمة، وشأن بقية القبائل كانوا يتنقلون من مكان لآخر بحثاً عن الرزق، وبالتالي ليسوا أصحاب حضارة”. مضيفاً “أخذت تلك القبيلة تتنقل حتى وصلت آسيا الصغرى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، وكانت في هذا الطريق الطويل تتصادم مع قوى وقبائل أخرى مستقرة وتنتصر عليها بقوة السلاح وتأخذ منها جزءاً، …
وعندما وصلت إلى آسيا الصغرى منتصف القرن الرابع عشر، كان هناك نزاعٌ في منطقة بيزنطة، في عهد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، بين الأباطرة الطامحين في تولي الحكم في هذه الإمبراطورية، فاستعان أحدهم بالعثمانيين، وكان زعيم القبيلة وقتها يُدعى عثمان، ومن هنا أطلقت صفة العثمانيين على هذه القبيلة”.
وبحسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، فإن “توسع الدولة العثمانية كان محض صراع سياسي مصلحي بين القوى القائمة منتصف القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، وليس له أي علاقة بالدين أو الخلافة، وتوصيف ما حدث تاريخياً أنه غزو وليس فتحاً”.
أضاف، “في عام 1453م، حيث دخول العثمانيين القسطنطينية وإسقاط الدولة البيزنطية، كانت هناك ثلاث قوى متنافسة في المنطقة، تمثلت في قوى الصفويين في إيران وهم شيعة، وقوى المماليك في مصر والشام، والعثمانيين القادمين من آسيا الصغرى وبيزنطة.
وحدث الصراع بينها، القوى الأقدم تمثل الصفويين والمماليك، والأحدث تمثل العثمانيين، وبدأ الصراع على منطقة لا تزال موضع خلاف حتى الآن وهي منطقة الأكراد شمالي العراق وسوريا وإيران وجنوب شرقي الدولة العثمانية، حيث كانت هناك وقتها إمارات كردية مستقلة، وفي عام 1514م هزم العثمانيون الصفويين في موقعة شال ديران أو كالديران، قبل نحو عامين من تلقي دولة المماليك الهزيمة الأولى لها في معركة (مرج دابق) السورية في 24 أغسطس (آب) عام 1516، حيث خسروا سوريا،…
ثم في موقعة (خان يونس) في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1516 في فلسطين، وفي 22 يناير (كانون الثاني) 1517، وقعت معركة الريدانية قُرب منطقة العباسية (وسط القاهرة اليوم) وكانت خارج العاصمة المصرية وقتذاك، وهزم الجيش المصري أمام نظيره العثماني قبل أن يدخل سليم الأول القاهرة في 26 يناير 1517 لتسقط دولة المماليك، وانتقلت للمرة الأولى عاصمة العالم الإسلامي خارج العالم العربي”.
بقيت ولا تزال مسألة “القرون الأربعة لحكم الدولة العثمانية لأغلب الدول العربية”، محل جدل ومسار خلاف بين المؤرخين، عما إذا كان يمكن اعتبارها “خلافة عثمانية أم غزواً واحتلالاً؟”. ففي رأي الدسوقي، فإن “العثمانيين ليسوا سوى غزاة ومستعمرين احتلوا بلاد العرب لمدة أربعة قرون، مثلهم مثل الاستعمار الفرنسي والبريطاني، واستنزفوا ثروات العرب وأورثوهم الضعف والتخلف”. نافياً عنهم صفة “الفاتحين”، إذ يقول “لا يمكن اعتبار دخول شعب مسلم لأرض شعب مسلم آخر فتحاً، هذا مناف للعلم والتاريخ. ومن يتحدث عن الفتح العثماني فإن حديثه قائم على العاطفة والحماسة الدينية بحجة أن الدولة العثمانية حمت الدول العربية من التغلغل الشيعي، عبر تصديها للدولة الصفوية في إيران”.
يتابع “السلطان العثماني كان إمبراطوراً استعمارياً، والبلاد العربية في عهده عانت التبعية لمركز استعماري، ولم تشهد أي معالم نهضة أو حضارة”. مضيفاً “الخلافة الإسلامية بالأساس مركزها مكة المكرمة في قبيلة قريش، وبالأخص في بني هاشم وهي خلافة عربية، ولهذا كان الخلفاء الراشدون من قريش والأمويين والعباسيين، وكمثال على إبعاد صفة الخلافة فإن صلاح الدين عندما قضى على الخلافة الفاطمية لم يسم نفسه الخليفة، وإنما سُمي بالسلطان لأنه كان كُردياً”.
يوضح، “رغم ترديد البعض مصطلح الخلافة العثمانية، فإن المراجع التركية ذاتها لا تذكر لقب الخليفة العثماني، والوحيد من السلاطين العثمانيين الذي ربط اسمه بلقب الخليفة وادعى الخلافة كان السلطان عبد الحميد، حين أصدر في عام 1876 دستوراً وذيله باسم عبد الحميد خليفة المسلمين، وتصدى له عبد الرحمن الكواكبي في كتاب (طبائع الاستبداد) وذكّره أن الخلافة عربية”.
في الاتجاه ذاته، يؤكد محمد صبري، المؤرخ وأستاذ التاريخ المصري في جامعة حلوان، أن “احتلال العثمانيين للمنطقة العربية وغزوهم دولها ليس محل وجهات نظر، بل هو حقيقة، وفكرة الخلافة لم تكن تطرح في الإمبراطورية العثمانية إلا في أوقات محددة ومتأخرة من عمرها”.
يضيف، “عندما اصطدم العثمانيون مع الفرس والروس وغيرهما، لم تكن تُطرح أبداً فكرة الخلافة، وبعض أتباعهم طرحها فقط مع غزوهم للدول العربية لإضافة بعدٍ ديني إلى الأمر، بالمخالفة للحقيقة جملة وتفصيلاً”. ملخصاً الأمر في قوله “المسألة صراع سياسي بالأساس على بسط السيطرة والنفوذ، وباختصار هي دولة احتلت دولة أخرى كانت قائمة”.
في المقابل، يقول المؤرخ محمد حرب، في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة”، الذي ترجم مذكرات “السلطان عبد الحميد الثاني”، “تبدت الكثير من الشواهد التي عكست أن العرب لم يكونوا ينظرون إلى العثمانيين على أنهم محتلون، مثل تلك الاستغاثات والنداءات التي أطلقها علماء وأعيان الشام ومصر لإنقاذهم من الحكم المملوكي”.
مشيراً في ذلك إلى ما قال إنه “ترجمه لوثيقة تاريخية في متحف طوب كابي في إسطنبول تحمل رقم 11634، وهي عبارة عن رسالة من علماء ووجهاء وأعيان وأشراف أهل حلب إلى السلطان سليم الأول، يناشدونه تخليصهم من الحكم الشركسي، ويشكون إليه الظلم وتعطيل الشريعة”.
وهو ما نقله أيضاً المؤرخ العثماني عبد الله رضوان في كتابه “تاريخ مصر”، حين ذكر أن علماء مصر كانوا يلتقون سراً كل سفير عثماني يأتي إلى بلادهم ويقصون شكاواهم ويستنهضون السلطان لتخليصهم.
في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام 1517م، بدأت مصر رسمياً رحلتها في كنف الدولة العثمانية بإعدام السلطان طومان باي، ووفق رواية المؤرخين ممن عاصروا تلك الفترة، فقد كان ذلك اليوم “نكبة وحسرة”، وبحسب رواية المؤرخ محمد بن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، فقد “وقعت في القاهرة المصيبة العظمى التي لم يُسمع بمثلها فيما تقدم، ولم يقاس أهل مصر شدة مثل هذه”. واصفاً ما شهدته البلاد في الأيام التي تلت “الاحتلال العثماني”، بالقول “انتهك ابن عثمان (سليم الأول) حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها وقتل أبطالها ويتّم أطفالها وأسر رجالها وبدّد أحوالها”، ثم يضيف في الجزء الخامس من كتابه “كان سليم رجلاً سيئ الخلق، سفاكاً للدماء شديد الغضب، ورُوي عنه أنه قال (إذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة)”.
وأوضح ابن إياس، في كتابه، الكثير من الوقائع التي أظهرت المآسي التي مر بها المصريون في أثناء دخول الحكم العثماني، من قتلِ الشيوخ والأطفال، وسبي النساء، واسترقاق المسلمين منهم قبل غيرهم، ومجاهرة الجنود العثمانيين بشرب الخمر في نهار رمضان، ناهيك بسعي السلطان العثماني سليم الأول، ومن بعده ابنه سليمان القانوني، إلى تدمير البنية الاقتصادية المصرية، حين بدأ عمليات نقل أصحاب الصناعة والحرفيين إلى إسطنبول.
يذكر أيضاً، “نقل سليم الأول، أمهر الأعمال وأرباب الحرف في مصر إلى الأستانة ما سبب الخراب وتوقف الصناعات التي اشتهرت بها مصر، حتى انقرضت الحِرف. فالعثمانيون ما رحلوا عن الديار المصرية إلا والناس في غاية البلية وفي مدة إقامة ابن عثمان في القاهرة حصل لأهلها الضرر الشامل”.
ينقل المؤرخ ابن زنبل الرمال، في كتابه “واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني”، “أن سليم الأول أمر بجمع ألفين من المصريين من رجال الحرف والصناعات وكبار التجار والقضاة والأعيان والأمراء، وأرسل بهم إلى القسطنطينية، كما عمد العثمانيون مع بداية ولايتهم إلى نزع ما في بيوت مصر وأثمن ما فيها من منقول وثابت، حتى الأخشاب والبلاط والرخام والأسقف المنقوشة ومجموعة المصاحف والمخطوطات والمشاكي والكراسي النحاسية والمنابر”.
وكما يقول ابن إياس، “مع استمرار مقاومة المماليك والمصريين للعثمانيين، وزيادة بطش الأخيرين، هرب المصريون للاختباء والحماية داخل المساجد، ولم يتردد العثمانيون في اقتحامها، بل قتلوهم بداخلها”، وتابع “إذا هرب مصري منهم إلى المئذنة صعدوا إليها وألقوه منها إلى الأرض، إذ كانت المساجد مستباحة”.
من جهته، أرجع الدسوقي تلك الوحشية، إلى “إحساس الأتراك بالدونية الحضارية أمام الشعب المصري، فهم ليسوا أهل حضارة ولا يملكون موروثاً ثقافياً، وهو ما تجلى في عدم تقديمهم شيئاً للمصريين بعد نحو 3 قرون من حكمهم”.
يتابع، “استولى العثمانيون على فرش المساجد والأضرحة، ومنها فرش مسجد السيدة نفيسة ومقامها، ومسجد السيدة زينب، والجامع الأزهر، ومسجد ابن طولون، ولم يترددوا في دخول واقتحام المساجد، وسرقة أي شيء منها “.
ووفق المؤرخ محمد صبري، فإن “مصر لم تشهد أي مظهر من مظاهر الحداثة طوال حكم الولاة العثمانيين حتى مجيء الحملة الفرنسية، سواء في البناء الاقتصادي أو الاجتماعي ومن ثم الثقافي، يجعل المجتمع يشعر بأي شيء مختلف عما كان عليه الحال من قبل”.
لم تكن الحال بالأفضل في بلاد الشام والعراق تحت سيطرة العثمانيين على مدار القرون الأربعة، ووفق ما سجّله المؤرخون ودوّنته الوثائق والأرشيفات الوطنية والدولية “تعددت المذابح بحق الشعوب، وانتشر الفقر والمجاعات، وزادت عمليات النهب منذ سنواتهم الأولى بالمنطقة”، …
فبعد معركة مرج دابق عام 1516 دخل العثمانيون حلب، ورغم استسلامها، قتل الآلاف من أهلها، واستباحوا نساءها طوال ثلاثة أيام، ثم تكرر الأمر ذاته بعد وصول سليم الأول إلى دمشق، حسب ما كتب المؤرخ ابن إياس.
ويقول ابن ياس، “سجّل التاريخ استباحة حلب ومعرة النعمان في حملة سقط خلالها، 40 ألفاً في حلب، و15 ألفاً في معرة النعمان، كما سقط إبان استباحة دمشق عام 1516 قُرابة 10 آلاف شخص خلال ثلاثة أيام فقط، وفي العام نفسه اُستبيح ريف إدلب وحماة وحمص والحسكة، ما أدّى إلى تحوّل كامل في البنية السكّانية نتيجة الموت قتلاً أو جوعاً، أو الهروب باتجاه المدن الأخرى، ..
ورُحِّل كثيرٌ من أرباب المهن والصناعات إلى داخل تركيا”، ثم يضيف: “عانت الشام النظام الإداري الفاسد للعثمانيين، والضرائب الثقيلة. أمّا على مستوى الجرائم الإنسانية، فاستبيحَت المدن، ودُمِّرت بنيتها الاجتماعية من خلال عمليات الإفقار والطرد السكاني واستجلاب مواطنين جدد، إضافة إلى عمليات الإبادة والقتل العشوائي”.
وعن أشكال الاستبداد والقهر التي عاصر بدايات العثمانيين في الشام، يقول بن طولون، “لم يعرف العثمانيون قانوناً سوى القتل، فكان الخازوق وسيلتهم المفضلة في تنفيذ أحكامهم البربرية التي تخالف الإسلام، ولم يفهم العثمانيون من الدين إلا قشوره، لذلك اعتمدوا القتل بالخازوق عقاباً للضعفاء”.
ويضيف، “أدخل العثمانيون الخوزقة إلى الشام، وقاموا بإرسال خازوق إلى كل حارة، كما جرى ترحيل أهل قيسارية القواسين في دمشق، وتحويل محالهم إلى مطبخ السلطان سليم”، بينما صدر أمر سلطاني بمصادرة جزء كبير من القمح والشعير من بيوت أهل دمشق.
كما ألغى العثمانيون ملكية الأراضي الزراعية، وأعلنوا ضمها إلى ملكية السلطان، ورغم احتجاج الناس وتقديم صكوك الملكية فإن قاضي العسكر العثماني لم يستمع، وأثناء إقامة سليم جرى تسخير الناس في مسك الخيل وغيرها لخدمته، وأحصى الأتراك السكان، وفرضوا ضريبة على كل إنسان، وكانت أول مرة تفرض هذه الضريبة على المسلمين، حسب بن طولون.
——————————————————————–
✏ بعض ما كتب المدافعون
يقول الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس، إن الدولة العثمانية بلغت ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، واتجهت فى غزواتها أولاً ناحية الغرب ووصلت إلى النمسا وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من روما …
ولكنها سرعان ما تخوفت من استمرار توجهها غرباً وهى تدرك أن المنطقة العربية تعانى من ضعف واضطراب شديد، وأنها معرَّضة لغزو فارسى، حيث تسعى الدولة الفارسية منذ أوائل القرن السادس عشر لنشر الفكر الشيعى فى المنطقة، ..
ولذلك غيرت الدولة العثمانية اتجاهها وقامت بغزو الدول العربية وحولتها إلى ولايات تابعة لها، واستمر الحكم العثمانى للدول العربية حوالى 400 سنة واحتدم الخلاف بين المؤرخين العرب والأوروبيين على الآثار السلبية والايجابية للحكم العثمانى على الدول العربية ومستقبلها.
ويؤكد شقرة أن هناك إجماعاً على أن نقل الدولة العثمانية الآلاف من العمال المهرة إلى إسطنبول كان وراء انهيار وتدمير الصناعات المصرية التقليدية وتراجعها وتراجع إبداعات الطوائف الحرفية المختلفة، وأن الجريمة الكبرى التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى حق الولايات العربية هى العزلة التى فرضتها على العرب بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى وحماية الحرمين من نبش قبر الرسول.
ويضيف: «يرى المؤيدون للدولة العثمانية أنها أجَّلت وقوع الاستعمار الأوروبى للولايات حتى القرن التاسع عشر، ويعدون ذلك إيجابية من أهم إيجابياتها، والحقيقة أن هؤلاء تناسوا وتجاهلوا أن الاستعمار الأوروبى ظاهرة ترتبط بالتطور الرأسمالى للمجتمع الأوروبى، حيث ارتبطت ظاهرة الاستعمار بالنهضة الصناعية واتجاه الدول الرأسمالية إلى الاحتكار، الأمر الذى دفعها إلى احتكار الأسواق ونهب الموارد الطبيعية للولايات العربية».
وأكد شقرة أن إحدى أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية، والتى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة، مشيراً إلى أن من أبرز إيجابياتها عدم انتهاجها المركزية فى بداية حكمها، الأمر الذى ساعد على احتفاظ الولايات العربية بشخصيتها القومية.
وعن الاتهامات التى لاحقت الدولة العثمانية من تهريب الحرفيين يقول الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، إن هذا الأمر أدى لتدهور الحرف، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان عادة الدول الفاتحة آنذاك كدليل على الانتصار، وأنهم أخذوا من كل الدول التى دخلوها كالعراق وصربيا وفلسطين وسوريا وغيرهم، وأن الصناع أعجبهم الحال فبقوا بالقسطنطينية وإسطنبول وتزوجوا وحققوا نهضة هناك ولم يكونوا يريدون الرجوع.
( ونعلق نحن على هذا بأنهم لو أخذوا جيلا كاملا و هذا غير ممكن فما الذي كان يمنع نشأة أجيال أخرى ؟ الواقع أن الإبداع في الحرف قديما كان يتبع مراكز السلطة أينما حلت فهي من تستطيع الإنفاق الباهظ و بيدها القرار بالتالي فهؤلاء الحرفيون ذهبوا بارادتهم طمعا في تحسين معيشتهم .. و أما من بقي منهم فلم يجد من ينفق على أعمال ذات قيمة عالية فلم يتركوا أثرا يدل على صنعتهم التي ربما كانت في نفس مستوى من ارتحلوا .)
وحول ما قدمته الدولة العثمانية لمصر يؤكد عفيفى أنها لم تضف إلى مصر بل أضعفتها وأفقدتها بريق وقوة الدولة، مشيراً إلى أن مصر رغم ذلك وبما تمتلكه من إمكانات طبيعية وبشرية ظلت أهم ولاية عثمانية لدرجة أنها كانت تشكل تهديداً للدولة العثمانية، حتى إن مجد الأزهر وقوته استمدها من العصر العثمانى، وبداية ظهور شيخ الأزهر فى العصر العثمانى، وظلت مصر منارة الثقافة العربية والإسلامية، وكانت تقدم السكر والأرز لإسطنبول.
وأضاف: «مصر هى التى أضافت للدولة العثمانية، وأول من حصل على لقب (خادم الحرمين) هو السلطان العثمانى سليم الأول، وقد تم إرسال الغلال والكسوة للحجاز من مصر بقرار عثمانى، باعتبار مصر أغنى دولة فى المنطقة، وقد أثرت مصر فى الدولة العثمانية فى عهد محمد على باشا كثيراً لدرجة دفعت البعض للقول إن تجربة محمد على التحديثية علَّمت الباب العالى الإصلاح».
وحول أبرز فترات التردى فى العصر العثمانى تابع أستاذ التاريخ بآداب القاهرة: «فترة القرن الـ18 بشكل عام كانت فترة صعبة على مصر نتيجة ضعف الامبراطورية العثمانية، وبالتالى الولاة العثمانيون على مصر صاروا ضعافاً وصارت سلطتهم أضعف من سلطة المماليك خاصة حينما حاول على بك الكبير استعادة أمجاد المماليك، وكان هناك صراع على السلطة بين المماليك والعثمانيين والحامية العثمانية وصارت السلطة الفعلية فى أواخر هذا القرن للمماليك، ومع ذلك فإن الدولة المصرية لم تضعف فى العهد العثمانى، فمصر كانت لديها مقومات تاريخية جعلتها تتصدى لهذا الضعف».
ويقول الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، رئيس الجمعية التاريخية: «حدث تحول من دولة المماليك ومركز الخلافة الإسلامية منذ عهد الظاهر بيبرس، وكانت مصر تمثل دولة إسلامية قوية، وكانت هناك ثلاث قوى صاعدة فى آسيا الوسطى ومنها القوة العثمانية إثر دخول محمد الفاتح القسطنطينية وصاروا قوى صاعدة طموحة للسيطرةعلى البلقان واليونان وبلغاريا وغيرها، وبدأت القوى العالمية تظهر ممثلة فى البرتغاليين، وكان المماليك محتكرين طرق التجارة الشرقية، ومن ثم فقد بحثت هذه القوى الصاعدة عن طرق تجارة أخرى فلجأوا إلى طريق رأس الرجاء الصالح مما أثر بالسلب على إمكانات مصر وعلى الجانب الآخر كان العثمانيون يتوسعون فيما نسميه الآن العالم العربى كالخليج والشام ومصر إذن فمصر تحولت بعد دولة المماليك إلى ولاية عثمانية لكنها ولاية متميزة ذات عاصمة متميزة بعد إسطنبول».
وعن عهود القوة والضعف فى عهد السلاطين العثمانيين يوضح فؤاد: «القوة تمثلت فى عهود السلاطين سليم الأول وسليمان القانونى رائد التشريع ومحمد الفاتح ومحمود الأول والثانى وعبدالحميد الأول إلى أن تم وضع حدود استعمارية لمناطق نفوذ بعد معاهدة فرساى وجاء أتاتورك ليلغى الخلافة».
وحول اعتبار محمد على وإسماعيل من رجال وولاة الدولة العثمانية فى مصر قال: «محمد على دخل فى مواجهة مع الباب العالى فيما يشبه الندية ولم يكن يمانع فى أن يكون سلطاناً إلى أن حصل على الفرمان العثمانى بتوريث الحكم فى أسرته».
وأكد فؤاد أنه يحسب للخلافة العثمانية أنها لم تسمح لليهود بإنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين فى عهد السلطان عبدالحميد الثانى، وأنه سدد ضريبة رفضه بخلعه من الخلافة.
———————-
🔹 ️وفي مقال مشابه يبرز أحد الأساتذة المدافعين النقاط بشكل أكاديمي ممتاز فيقول :
هذا الهجوم الروائي المسيئ للدولة العثمانية لم يتولد فقط نتيجة الصراع الإسلامي مع الغرب في العصور الوسطى فقط ؛ بل أعيد توليده بتوسع في مرحلة الصراع المملوكي – العثماني – الصفوي – الصليبي،..
وقد حفلت تلك الروايات بالتوجس والعداء، وعلى هذا كان التصور الغربي والعربي سلبي تجاه الحكم العثماني.
و كان آخر تطور لهذا الهجوم في القرن التاسع عشر عندما راجت فكرة القوميات و الثورات التى نجحت الماسونية فى بذرها فى أوربا أولا ثم فرضها الغرب على العالم …
فصارت الحركات المحلية و القومية تمارس ذلك الهجوم وتشويه تاريخ و أخبار الإمبراطوريات التى هي ضمن سيطرتها لتدعم انفلاتها و تحررها من السلطات المركزية للإمبراطوريات الكبيرة على رأسها العثمانية و إمبراطورية المجر النمسا و امبراطورية القيصر في روسيا ..
و لنعد للمرحلة الوسطى وهي مرحلة الصراع المغولى الأوربي مع العثمانيين كان هناك طرف ثالث كان من المتوقع أن ينضم إلى أبناء مذهبه السنة العثمانيين ضد المغول بقيادة تيمورلنك وأيضا كان الصراع العثماني الأوربي على أشده لأن بايزيد لم يكف عن حصار القسطنطينية فأوشكت أن تسقط على يديه ..
▪︎إلا أن حملة التشويه استطاعت أن تعكس الآية .
فمنذ أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، حذر شيخ المؤرخين العرب عبد الرحمن بن خلدون – حذر السلطان المملوكي برقوق من عواقب قبول التحالف مع العثمانيين، مرددًا قولته المشهورة:
“لا تخشوا على ملك مصر إلا من أولا عثمان”.
وكذلك مؤرخون عرب ومسلمون حملوا نفس التصور .
الوحيد الذي خالف ذلك هو المؤرخ ابن تغري بردي المثقف بحسه العالي، إذ دعا الى تحالف عثماني مملوكي ضد المغول بقيادة تيمورلنك، غير أنه في ظل حال الالتباس والتوجس، تم تجاهل رأيه، مما أدى في النهاية الى تحقيق نبوءته، فاجتاح المغول أراضي المماليك والعثمانيين في الشام والأناضول كلها.
و العجيب أن نجاح فكرة التشويه تلك إمتدت حتى جاء دور الصراع الصفوى الرافضى مع الدلة العثمانية فى ذات الوقت الذي كان فيه سليم الأول يقاتل في قلب أوربا و طلب من المماليك مساعدته ضد أوربا و اسماعيل الصفوي فما كان منهم إلا أنهم عقدوا تحالفا مع الشاه اسماعيل الصفوى ضد سليم ياووز الاول ❗
فأدى ذلك لانشغاله عن حروب أوربا و عن اتمام ازالة الدولة الصفوية و سعى لهدم دولتهم فأزالهم من الوجود و فقد العالم الإسلامي طرفا كان من الممكن أن يعدل دفة الصراع مع أعدائه لو أنه اتبع الحق .
أما بالنسبة لآراء الكتاب الأوروبيين من الحكم العثماني، فقد كانت محكومة بمواقف بلادهم من التقدم العثماني في أوروبا، خصوصًا بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية) بيدهم، وحولها العثمانيون إلى عاصمة للإسلام (إسلام بول)،
فتأثرت نفوس الأوربيين بنزعة الحقد ضد العثمانيين، خاصة الرهبان والبابوات وزعماء الإقطاع الذين أخذوا يغذون الشارع الأوروبي بالأحقاد والدسائس ضد المسلمين في خطاباتهم وكتابتهم، ووصفوهم بالبرابرة والكفرة والوحوش والرعاة.
سيما بعد أن حاول العثمانيون السير لضم روما الى حظيرة الدولة الإسلامية، وأرادوا بلوغ ديار الأندلس لإنقاذ المسلمين فيها، وعاشت أوروبا في خوف وفزع وهلع ولم تهدأ قلوبهم إلا بوفاة السلطان محمد الفاتح.
ومع بداية عصر النهضة في أوروبا، لم يستطع وجدان المجتمع الأوروبي أن يتخلص من تلك الرواسب الموروثة تجاه العالم الإسلامي بشكل عام وتجاه الدولة العثمانية بشكل خاص.
ولذلك اندفعت قواتهم العسكرية المدعومة بحضارته المادية للانتقام من المسلمين، واستحواذ خيراتهم بدوافع دينية واقتصادية وسياسية وثقافية، وساندهم كتابهم ومؤرخوهم، للطعن والتشويه في الاسلام وتاريخه، فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبيرًا.
كما تأثر كثير من مؤرخين العرب بالاتجاهات الأوروبية المادية، ولذلك أسندوا كل ماهو مضيء في تاريخ بلادهم إلى بداية الاحتكاك بهذه الحضارة البعيدة كل البعد عن المنهج الرباني، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب.
واحتضنت القوى الأوروبية الاتجاه المناهض للخلافة الإسلامية، وقامت بدعم المفكرين في مصر والشام إلى تأصيل الإطار القومي وتعميقه من أمثال البستاني واليازجي وجرجي زيدان وأديب إسحاق وسليم نقاش وفرح انطوان وشبلي شميل وسلامة موسى وهنري كورييل وهليل شفارتز وغيرهم، وكان أغلب هؤلاء من حملة التيار التغريبي المسيء لتاريخ الأمة الإسلامية وحضارتها. ❗
وقد شارك بعض المؤرخين السلفيين في المشرق العربي في الهجوم على الدولة العثمانية مدفوعين إلى ذلك بالرصيد العدائي الذي خلّفه دور الخلافة العثمانية ضد الدعوة السلفية (الوهابية) في عديد من مراحلها !!!
بسبب مؤامرات الدول الغربية الاستعمارية التي دفعت السلاطين العثمانيين للصدام مع القوى الإسلامية في نجد قلب الدعوة السلفية،…
وكذلك بسبب مساندة العثمانيين للاتجاه الصوفي، فضلًا عن أن الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة سيطر عليها دعاة الطورانية التركية ( جمعية التحاد و الترقي و حزب تركيا الفتاه ) الذين ابتعدوا بها عن الالتزام بالمنهج الإسلامي الذي تميزت به الدولة العثمانية لفترات طويلة، وشجع كافة المسلمين للارتباط بها وتأييدها والوقوف معها.
وأما المؤرخون الماركسيون فقد شنوا حربًا لاهوادة فيها على الدولة العثمانية، واعتبروا فترة حكمها تكريسًا لسيادة النظام الإقطاعي الذي هيمن على تاريخ العصور الوسطى السابقة،
وأن العثمانيين لم يُحدثوا أي تطور في وسائل أو قوى الإنتاج، وأن التاريخ الحديث يبدأ بظهور الطبقة البورجوازية ثم الرأسمالية التي أسهمت في إحداث تغيير في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في بداية القرن التاسع عشر،..
والتقوا في ذلك مع المؤرخين الأوربيين من أصحاب الاتجاه الليبرالي وكذلك مع أصحاب المنظور القومي، ممن نادوا بنزعات محلية مدعومة من الماسونية العالمية كأصحاب مشروع وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، ودعاة الاتجاهات المحدودة كأتباع الفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والفينيقية في الشام..الخ.
لقد غلبت على الدراسات المذكورة طابع الحقد الأعمى، بعيدة كل البعد عن الموضوعية، ❗
وأدى ذلك الى ظهور رد فعل إسلامي للرد على الاتهامات والشبهات التي وجهت للدولة العثمانية،
ولعل من أهمها تلك الكتابة المستفيضة التي قام بها الدكتور عبد العزيز الشناوي في ثلاث مجلدات ضخمة تحت عنوان “الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها”.
ومن الجهود المشكورة في هذا الميدان ما قام به الباحث المتخصص في تاريخ الدولة العثمانية الأستاذ محمد حرب الذي كتب للأمة الإسلامية كتبا قيمة مثل :
“العثمانيون في التاريخ والحضارة”
“السلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية وقاهر الروم” “السلطان عبد الحميد آخر السلاطين العثمانيين الكبار”.
ومن الأعمال القيمة في تاريخ الدولة العثمانية ماقدمه الدكتور موفق بني المرجة كرسالة علمية لنيل درجة الماجستير تحت عنوان
“صحوة الرجل المريض أو السلطان عبد الحميد”
واستطاع هذا الكتاب أن يبين كثيرًا من الحقائق المدعومة بالوثائق والحجج الدامغة، وغير ذلك من الكتاب المعاصرين.
وقد اعتمد مؤرخون منصفون على إعادة كتابة التاريخ العثماني، ومنهم كتاب أتراك وعرب وغربيون، على المخطوطات والوثائق، وعلى سجلات المحاكم الشرعية، وحجج الأوقاف والدفاتر المالية، وسجلات المواني، وسجلات الروزنامة، والعقود التجارية المحفوظة كلها.
ولجميع تلك المصادر التاريخية أهمية قصوى فهي تسجل التاريخ العربي اليومي تحت الحكم العثماني. وفضلًا عن ذلك تم الاعتماد على وثائق الأرشيف العثماني بإسطنبول، الذي احتوى على آلاف الوثائق الخاصة بالولايات العثمانية الشرقية والغربية.
وعلى هذا، فقد وصف مؤرخون عرب معاصرون القراءات المتعددة للتاريخ العثماني بأوصاف منصفة وحيادية، فقد قال الباحث المصري محمد عفيفي :
“إن صورة الدولة العثمانية تتغير من فترة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، فصورتهم في مصر تختلف عن صورتهم في الشام”.
وكذلك الباحث السوري صقر أبو فخر إذ قال :
“ليست الدولة العثمانية شريرة، بل كانت دولة عظيمة بلا ريب. ولم ينظر إليها العرب أنها دولة استعمارية، بل اعتبروها دولتهم، وكانوا يسمّون أبناءهم بأسماء مثل “تركي” و”تركية” و”دولت” وغيرها….
لكنها مثل أي دولة عظيمة أخرى، مرّت بأطوار من الصعود والهبوط، أو التقدّم والانحطاط، أو التشدّد واللين، أو العدل والاستبداد. لذلك، تخضع دراسة التاريخ العثماني لتلك المتناقضات”.
في نهاية المطاف يمكننا القول:
نجحت الدراسات التاريخية الحديثة في إزالـة الغـبـار عـن حـقـيـقـة الـواقـع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للدولة العثمانية، مما ساهم في إعادة النظر، بل ودحض فكرة تخلف الشعوب والأمم الخاضعة للحكم العثماني.
وغالبية الكتاب ترى أن العثمانيين حكموا المنطقة العربية أربعة قرون، فيها سنوات نهضة وسنوات انتكاسة.
وشارك في الدولة العثمانية أجناس متعددة ولغات مختلفة بما فيها العرب الذين شاركوا في الحضارة والسياسة في تلك الفترة. كما أن الصورة القاتمة التي رسمها بعض المؤرخين للحقبة العثمانية خاطئة.
فالدولة العثمانية تميزت بالتسامح الديني والثقافي، وكانت الملاذ الآمن والبلد الحضاري لكل الفارين من الاضطهاد الديني والقهر السياسي في أوروبا والممالك الأخرى في العالم آنذاك.
——————————————————————–
تعتبر هذه الفقرة تمهيدا لموضوع : (تاريخ الدولة العثمانية )
#تاريخ_الدولة_العثمانية_جواهر [1]