اقلام حرةالرئيسية

حينما كنت طفلة سألت والدتي شو يعني مستقبل / بقلم عائشة الخواجا

قدمت لي مديرة مدرستي ماري بركات وأنا في الصف الثاني الابتدائي هدية تقديرا لقيامي برسم حارس المدرسة ( أبو عدنان ) ( جائزة أطفال ) مكونة من علبة أقلام كرايونز ودفتر رسم ضخم لم أعرف كيف أحمله معي إلى بيتنا في المخيم ( النويعمه ) في أريحا … ودفتر نسخ مختوم بشعار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين!
احتفلت بي معلماتي ليلى مقدادي وفاطمة العزي وخالصة هارون وريما الحلتة وعائشة صبيح ورفيدة القطب ونورما الحسيني وهدى سرياني وعائشة الأميركاني ومربية صفنا هند الحزينة…وطعموني تبولة وشربوني قزازة ميرندا باردة كثير في عز صيف أريحا ..وباسوني وقعدوني في غرفة الإدارة وتصوروا معي ووقفوني على طاولة المديرة وغنوا لي .
يومها ما كنت عارفة أي رسمة اللي حبتني معلماتي عليها ، كنت نفسي أعرف وأشوف الرسمة ، لأني كنت أرسم كثير ومربية الصف هند الحزينة بتجمع رسماتي وبتبوسني وبتبوس إيدي وبتقوللي : إنتي إلك مستقبل يا قمر .
ما كنت أعرف شو معنى مستقبل . كنت برجع عالبيت وبسأل إمي : يمه شو يعني مستقبل ؟
تحكي لي : يعني بكرة واللي بعده .
كان بيمضي أول بكره أول يوم والي بعده وبقول لإمي : هيك خلص المستقبل…
تضحك وتحاول تفهمني لكن …!

كنت خلال وقوفي على طاولة المكتب في غرفة المديرة أبكي …
فجأة التزمت المعلمات بالوقوف خارج الإدارة وتركوني واقفة على الطاولة وحدي ، شفتهم بيسلموا على ضيف ومعاه ستات كثير ، دخلوا على المكتب وحوطوني وهذي تبوسني وهاي تمسك إيدي وتلحمس عليها وهذيك تملس على شعراتي ، وتناولني الضيف وحملني على كتافه وصورنا المصور ، بكاميرا رفيعة طويلة بعدين عرفت اسمها لما كبرت ( مينولتا ) ..
وعرفت في نفس اليوم إنه مدير تربية وتعليم لواء القدس وأريحا ( الأستاذ رشيد عريقات ) .. هو راعي حفل الطفلة عائشة الخواجا …
ظل قلبي يتساءل :
ترى أي رسمه أخذت عليها الجائزة وكل هذا الاحتفال والحب ؟

فجأة طلبت السيدة العظيمة ماري بركات من الضيوف الدخول إلى غرفة التدبير المجاورة لغرفة الإدارة ، وذهل الجميع وأنا على أكتاف الأستاذ العظيم رشيد عريقات …
كانت المفاجأة الكبرى :
رسمة أبو عدنان الديري آذن المدرسة ،
مبروزة ومعلقة والكل صاح :
يا سلام … عائشة بطلة .
عائشة بطله ؟ ليش …شو عملت ،؟
بدأت المديرة تشرح لمدير التربية والضيوف عرفت أن الستات هن من دار المعلمات في رام الله حضرن للاحتفال الكبير .
قالت السيدة العظيمة والمربية الكبيرة القدر والشأن ماري بركات :
أبو عدنان محارب في فلسطين ، قطعت ذراعاه في الحرب قبل عشر سنوات …أبو عدنان يعمل آذن في المدرسة ويحمل الصينية على ذراعه الأيمن فينزل الكم الطويل إلى أسفل وذراعه اليسرى ملفوفة إلى الوراء ..
عائشة رسمت أبو عدنان في هذه الرسمة بذراعين و يحمل الصينية بيديه الاثنتين والأكمام كاملة مزررة بأزرار خارطة فلسطين .
كيف فعلت عائشة ذلك ؟ كيف فعلت عائشة هذا الفعل الفني المؤثر ؟ لا نعلم حجم تلك الموهبة …
عرفت أنني حينما رسمت أبو عدنان بذراعين كاملين ، كنت اعيد بالمخيلة والمشاعر الإنسانية للإنسان ما فقد وبإحساس الطفلة رسمت حق الإنسان وكانت المفاجأة التي لم أرسمها …بل رسمتها المشاعر البريئة !
كنت في تلك اللحظات …لحظات الاحتفال بطفلة أهلها غائبون … أبحث عن أمي أو أبوي …ما شفت حدا … لكن طفولتي كانت مرفرفة في السما ..وتذكرت إنه أمي حردانة في عقبة جبر ..وعند مين ؟
عند عمتي صبحة ..أخت زوجها عشان ما تحرد عند أخوتها ويزعلوا من أبوي …بدها تخبي …مهو أبوي نموذج محترم ومحبوب وصاحب شان ومجاهد .كيف تروح تحرد عند أخوتها…أعوذ بالله …!
وأبوي كان مسافر في قبرص عشان هيك إمي حردت وخلتنا أمانة عند جدتي مريم في المخيم ،.
كنت أنا اللي بعتني بأخوي غازي أكبر مني بسنتين ، وبأخوي فايز أصغر مني بسنتين ، وبأخوي نقرش أصغر مني بأربع سنين …وأنا اللي بعمل كل شيء مطلوب في بيت المليان شجر وأرانب وجاج وحمام وزغاليل ، ولازم كل ليلة أعجن واخمر والصبح بدري كثير أقطع العجين وأروح على فرن العموري بآخر المخيم ، وأصف عالدور وأحمل الخبزات ، وأنا بشمشم ريحة الخبزات ، وما تهف نفسي أنتف رغيف قبل ما يشوفوه أخوتي النايمين !
وأخليهم نايمين وبسرعة أكنس كل الحوش وأطلق الأرانب والجاجات وأعلف الجميع ، وآخذ الدفتر الزغير الأسود ( دفتر الدين ) وأركض أشتري صحن الحمص والفول والفلافل المزين بمخلل اللفت الزهري الغامق ، من محل أبو حبروقة الجمزاوي ، ويسجل على الدفتر ويفرجيني قديش المبلغ :
شوفي عمو عيوش … هاي ثلاث قروش ونص اليوم … قولي لأخوك غازي بكرة ييجي يشتري لأنك حافية وهو عنده كندره .
وما بعرف كيف قلت له : أنا عندي كندرتين بس عشان يظلوا حلوين للمدرسة يا عمي .
يضحك ويقول لي : صحتين يا عم .
أقول له وأنا بضحك : صحتين عالكندرتين والا عالصحنين ؟
يقول لي : زعره استعجلي وروحي فطري أخوتك .ووديهم عالمدرسة .
وأكون ماشية مثل اللي ماشي على بيض وخايفة يسيلوا الزيتات عن الصحون .
في هذاك اليوم الغريب في حياتي حفظت أسماء كل معلماتي الحبيبات …وظل الدين في عنقي إلى يوم الدين …ولم أعرف معنى المستقبل حتى الآن إلا أنه الإحساس بفضل الناس والإحساس بالناس!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق